"جِئتُ لتكونَ لهُم حياة ولِيَكُونَ لهُم أفضَل." (يُوحنَّا 10:10)
في هذا العصر، أصبَحت الإيديولوجيَّات السياسِيَّة والاجتماعية رَخِيصةً
كونها برهنت عن فشلِها، والنظريَّات العِلمِيَّة مشكوكًا بأمرِها كونَها تُكَذَّبُ يوميًّا باكتشافاتٍ عِلميَّةٍ جديدة، والفلسفاتُ الفِكرِيَّة واهيةً كونَها عجِزَت عبرَ الأجيال عن تغييرِ الأمرِ الواقِع. وماذا عنِ الديانات؟ الناسُ اليوم، أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضَى، يُفتِّشُونَ عنِ الحقيقة، ولكن ليسَ في موقِعِها التقليدِيّ، أي في العقائدِ والآراء، بل في نهجِ المسلكِ والحياة.
وإن كان العالمُ الخارِجيُّ ينظُر شذرًا إلى حياةِ المسيحيِّين لِيَرَى كم من الحقيقةِ المسيحيَّةِ تجسَّدَت في حياتِهم، فكم بالأحرى يُتَوَقَّعُ من المُؤمِنين بالمسيح أن يُقدِّمُوا للعالم أفضلَ تجسيدٍ حَيٍّ عن الإيمان المسيحيّ. إخوتِي المُؤمِنين، إنَّ العالم ينظُرُ إلينا، والمسيحِيُّون التَّقليديُّون، وأتباعُ الدِّياناتِ الأُخرى ينظُرُونَ إلينا، لِيَروا هل سمَحْنَا للمسيحِ أن يُنجِزَ فينا الحياةَ الفُضلى على الصعيدِ الشخصيّ، كما وعدَنا في كَلِمَتِهِ؟ وبالطبعِ فإن هذه الحياةُ الفُضلَى هي نِعمةٌ من الربِّ لنا، ولكن علينا مسؤوليَّات تِجاهَ قُبُولِها وصِيانَتِها:
أولاً: الدوافِع
الإنسان لا يُحقِّق شيئًا في الحياةِ بِدُونِ دافع، فإن لم يكُن لديكَ دافِعُ الجُوعِ للأكلِ فلن تُزعِجَ نفسَكَ وتأكُل، وإن لم يكُن لديكَ دافِعُ العطشِ للشُّربِ فلن تشرب، وإن لم يكُن لديكَ دافِعٌ للحياةِ الفُضلَى في المسيح، فلن تَنَلها. ولكن الدوافِع تتأثَّرُ بالمُحيط وتستوحِي منهُ اتِّجاهَها. الدَّواءُ لهذهِ الداء هو تطوير دوافِع فرديَّة. في يُوحنَّا 18:21-22، عندما قالَ يسوعُ لِبُطرُس، "[الحقَّ الحقَّ أقولُ لكَ: لمَّا كُنتَ أكثرَ حداثةً كُنتَ تُمنطِقُ ذاتَكَ وتَمشِي حيثُ تشاء. ولكن متى شِختَ فإنَّكَ تمُدُّ يدَكَ وآخرُ يُمنطِقُكَ ويحمِلُكَ حيثُ لا تشاء.] قالَ هذا مُشيرًا إلى أيَّةِ مِيتَةٍ كان مُزمِعًا أن يُمجِّدَ اللهَ بها. ولما قالَ هذا قالَ لهُ: [اتبَعنِي…] فلمَّا رأى بُطرُس هذا، قالَ لِيسوع: [يا ربُّ وهذا ما لَهُ؟] قالَ لهُ يسوع: [إن كُنتُ أشاءُ أنَّهُ يبقَى حتى أجيءَ، فماذا لكَ؟ اتبعني أنت!]" إن قولَ يسوع لِبُطرُس يُلغِي حقَّنا بالاستنكافِ عن التكريس بحجَّةِ أن الآخرينَ غير مُكرَّسين، وبالارتدادِ عن القداسةِ كون الآخرين غيرُ مُقدَّسين، وقِسْ على ذلك. إنَّ الربَّ يسوع بِقولِهِ لبُطرُس، "اتبعني أنت،" يقولُ لِكُلِّ واحِدٍ منَّا أن نتبَعَهُ بِقناعاتٍ ومواقِف فرديَّة، بالتزامات فرديَّة، بتضحياتٍ فرديَّة، بقِيَمٍ ومُثُلٍ مسيحيَّةٍ فرديَّة، أي بِغَضِّ النظرِ عمَّا يفعلُهُ باقِي المُؤمِنين والخُدَّام، سواءٌ كان للأفضلِ أم للأسوأ. بهذه الطريقة استطاعَ الأنبياءُ والرُّسُل في العهدين القديم والجديد، وأبطالُ الإيمان والمُرسَلون في تاريخِ الكنيسة القديم والحديث، أن يُغرِّدُوا خارِجَ السربِ ويخرُقُوا صمتَ روتِين أجيالهم المُمِلّ بِمُغامَراتٍ روحيَّةٍ فرديَّةٍ لم يسبِقها سابِقة، سواءٌ على صعيدِ المواقف والقناعات، أم على صعيدِ الالتزامات والتضحيات، أم على صعيدِ القِيَمِ والمُثُل. هذا هو المِفتاحُ الذي يتركُ البابَ مفتوحًا للربّ يسوع، كي يُحقِّقَ فينا الحياةَ الفُضلَى الفيَّاضةَ، مما يسمحُ للآخرينَ أن يروا فينا مِثالًا يُقتَدَى.
ثانيًا: التأثيرات
إن رائحةَ الطيبِ تفوحُ من قارورَتِهِ حتَّى ولو أقفلتَها بإحكام، ومِياهَ النبعِ ترشحُ من صخرِهِ حتَّى ولو أطبَقَتْ عليهِ الآكام، وخُيوطُ النُّورِ تنسابُ من النجُومِ التائِهَة حتَّى في حَدَقَةِ الظلام. هكذا لا مفرَّ لِحياتِنا إلا وأن يكونَ لها تأثيرٌ على المُحيطِ، فإمَّا تعبُقُهُ بطيبِها وتُروِيهِ بمائها وتُبهِجُهُ بِنُورِها، وإمَّا تعيثُ فيهِ فسادًا لا يُطاق. فينبَغي أن تكونَ حياتُنا حياةً مسيحيَّةً فُضلَى، أي فيَّاضة، تتدفَّقُ منها ثمارُ الروحِ لتُغذِّي صحراءَ الحياةِ القاحِلة. من تحدِّياتِ الحياة الفُضلى أمامَ المُؤمِن:
أن تفيضَ حياتُهُ بالمَحبَّةِ رُغمَ الكراهية التي تسودُ على القُلوب، وبالفرَح الأبدي بِغَضِّ النظر عن الكآبةِ والحُزنِ والإحباط التي ترتَسِمُ تقاسيمُها على وُجوهِ الجميع، وبالسلامِ النَّابِع من المُصالَحة والفِداء وسطَ عالمٍ تتجاذبُهُ الصراعاتُ والحُروب، وبِطُولِ الأناةِ الصَّابِرة في جوٍّ عابِقٍ بالمرارةِ والسخط، وباللُّطفِ في وجهِ تحدِّياتِ وقاحةِ أعداءِ الإيمان وتحامُلِ أهلِ الإيمان، وبالصَّلاح في وقتٍ يتفنّنُ فيهِ الناسُ بفعلِ الشرِّ ويُشرِّعونَهُ قانونًا للمجتمع، وبالإيمان أمامَ افتراءاتِ العقل الوقِحةَ من جيلٍ يرفُضُ الإيمان بكُلِّ ما لا يمسُّهُ بالعِيان، وبالوَدَاعة في زمنٍ يدوسُ القُساةُ فيهِ على الوُدَعاء غيرَ عالِمِينَ أنَّهم سيَرِثُونَ الأرض، وبالتعفُّف في قلبِ مُجتَمعٍ مُنحَلّ تفوَّقَ على كُلِّ من سبقَهُ في التاريخ في فُنون الرذيلةِ والإثم. قد تبدو هذه الأمور تعجيزيَّةً إن لم تكُن مُستَحيلة، ولكن هُنا يظهَرُ دورُ النعمة الإلهيَّة، وهُنا تُمتَحنُ مِصداقِيَّةُ الخليقة الجديدة، وهُنا تُبَرهَنُ جدارةُ المُؤمِن بكونِهِ قُدوَةً في كُلِّ شيء. فلا يَحِقُّ للخادِمِ أن يتوقَّعَ من الشعب في كنيسةٍ يخدِمُ الربَّ فيها، لا يحقُّ لهُ أن يتوقَّعَ من الشعبِ أن يُحبُّوا أكثرَ مما هو يُحِبّ، أو أن يفرَحوا أكثرَ مما هو يفرح، أو أن يعيشوا في سلام أكثرَ مما هو يعيش، أو أن يصبِروا أكثرَ مما هو يصبِر، أو أن يعمَلوا الصلاح أكثرَ مما هو يعمل، أو أن يتمسَّكُوا بالإيمان أكثرَ منهُ، أو أن يكونوا وُدَعاء أكثرَ مما هو وديع، أو أن يعيشوا في العِفَّةِ والطهارةِ أكثرَ من خادِمِهم. فعندما تُصبِحُ هذه هي الحال، يكونُ الخادِمُ وخِدمتُهُ في طريقِ الزوال.
ثالثًا: الأهداف
قد نظُنُّ خطأً أنَّهُ لا ينبَغي أن تُوضَعَ أهدافٌ للحياةِ الفُضلَى. ولكن الحقَّ يُقَال أنَّ كُلَّ ما لا يهدِفُ إلى شيء، لن يصلَ إلى شيء، أو بالأحرَى سيُحقِّقُ هدفَه الفارِغ. ليسَ فقط أنَّهُ ينبَغي أن يكونَ للحياةِ الفُضلَى هدف، بل بالأحرى ينبَغي أن تكونَ الحياةُ الفُضلَى هدفًا بِحَدِّ ذاتِها، أي أن نهدِفَ أن نعيشَ تلكَ الحياة الفُضلَى التي هي ملءُ صورةِ اللهِ لنا قبلَ السقوط، وإعلانُ كلمةُ اللهِ فينا بعدَ الصَّمتِ والسُّكُوت. هدفُ الحياة الفُضلَى هي أن تجعلَنا نعيشُ علاقةً معَ اللهِ كما عاشَ الأنبياءُ أمامَهُ في خوف، وأن ننقُلَ كلِمتَهُ إلى قُلوبِ الناسِ كما نقلها الأنبياءُ بِسُلطان. وبالتالي فهدفُ الحياةِ الفُضلَى هو أيضًا أن تسكُنَ فينا كلمةُ المسيحِ بِغنَىً، الأمرُ الذي لا يتحقَّقُ إلا عندما نسكُنُ نحنُ في كلمةِ اللهِ بِعُمق. وهدفُ الحياةِ الفُضلَى هو أن تنعَكِسَ علاقتُنا الحميمة معَ الربِّ ومعرِفتنا العميقةَ بِكَلِمَتِه، أن تنعَكِسَ على علاقةٍ مُفعَمَة بالعَطفِ والمحبَّةِ والحنان معَ أفرادِ عائلتنا، لنَعكِسَ حياةَ المسيحِ الفُضلَى فينا على المُجتَمع.
لقد جاءَ المسيحُ لكي يمنَحَنا حياةً أفضل، ليسَ فقط بالبُعدِ الأبدي، بل أيضًا الزمني، حياةً أفضل معهُ، معَ كلمَتِهِ، معَ نُفُوسِنا، مع عائلاتِنا، ومعَ الآخرين. فهلَّا فسحنا له المجال؟
لقد أهَّلَ اللهُ بنعمتِهِ رجالًا ونِساءً في العهدَين القديم والجديد، وكذلكَ في تاريخِ الكنيسة المُبَكِّرُ والمُتأخِّر، كانوا تحتَ الآلام مثلنا، مجبولينَ بالضعف، ولكنَّهُ أضافَ على جبلةِ طينتِهم من دِماءِ نعمَتِه فزيَّنَ ضعفَهُم بالبُطولَةِ، فعاشُوا الحياةَ الفُضلى في المسيح. إنَّ اللهَ، الفخَّاريّ الأعظَم، يبحَثُ عن أولئكَ المُستَعِدِّينَ ليستسلِموا كُلِّيًا بينَ يديهِ، ليصنَعَ منهم آنيةً فُضلى، يسكُبُ من خِلالهم الحياةَ الفُضلَى على نُفوسِ الناس المُتعطِّشة لملئِه. فهل تستسلِم بينَ يديهِ؟