سأبدأ في هذه المجلة الغنية دائمًا بموضوعاتها، بتقديم عظة لطيّب الذكر القس فريد خوري،
راعي كنيسة الاتّحاد المسيحي في دمشق والرئيس الروحي في سوريا ولبنان. خدم الرب لسنين في عدة بلدان وتكلم في مؤتمرات كثيرة، واستخدمه الروح القدس في جميع خدماته لإيصال رسالة الحياة المسيحية الحقّة.
يقال: "إن العظة هي الواعظ." لأن الواعظ ليس كساعي بريد يوزع رسائل لا يعرف محتواها بل هو الذي يتلقّى رسالة من الله، فتتفاعل فيه ويتأثّر بها ومن ثم يُخرجها مصبوغة بشخصيّته وموهبته، ومُساقة بالروح القدس. هكذا كان هذا الخادم الذي أمسك بيد الكثيرين، وشجعهم، وأنا واحد منهم إذ قادني وشجّعني لأصبح قادرًا على الوقوف على منبر المسيح. لذلك صلاتي للرب أن يُكلّم الكثيرين من خلال هذه العظة، لأنه "وإن مات يتكلم بعد!"
إعداد القس عيسى نزال
بداية مميزة (مزمور 90)
تتضمّن الحياة الإنسانية عناصر كثيرة هامة وهذه العناصر تؤثر جدًا في نوعية الحياة التي نعيشها وغايتها وتأثيرها. ولعلّ واحدًا من أهم العناصر التي تؤثر على الحياة الإنسانية هو الزمن. والمزمور 90 تتكرر فيه بعض العبارات التي تدلّ على الزمن كما يلي: "في دور فدور"، "منذ الأزل"، "ألف سنة"، "أفنينا سنينا"، "أيام سنينا".
إذًا عنصر الزمن في هذا المزمور هو العنصر الرئيسي، والزمن فيه هو الزمن الذي يتعلّق بالحاضر والماضي. يقول في عدد 10 "إحصاء أيامنا هكذا علِّمنا". عندما نتأمل في الماضي أو نفكّر بالماضي أو بالتاريخ تتحرّك فينا أحيانًا مشاعر الحزن أو الكآبة أو الفشل وأحيانًا مشاعر الفرح. نتذكّر مشاعر متضاربة عندما نفكّر بالماضي، فالبعض منا يتشاءم والبعض يتفاءل والبعض يتَّعظ. لكن تبقى حقيقة وهي أنه ينبغي علينا أن نتَّعظ من الماضي لنتعلّم منه، وينبغي علينا أن ننظر إلى الماضي أو التاريخ ليس بالنظرة الإنسانية، لكن ننظر إلى الماضي بعين الإيمان.
لاحظ عبارة “لأن ألف سنة في عينيك”! بالنسبة لنا ألف سنة طويلة، ولكن في عيني الرب هي قصيرة. “وَلَكِنْ لَا يَخْفَ عَلَيْكُمْ هَذَا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَيُّهَا الْأَحِبَّاءُ: أَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ.” (2بطرس 8:3) ويقول عنها موسى: "مثل يوم أمس بعد ما عبر." الأمر مختلف بين تفكير الإنسان والرب. لذلك أعتقد أن الرب يريد أن ننظر إلى الحياة والزمن وسائر الأمور بعينيه هو. أي أن نفكِّر بالأمور كما يفكِّر هو بها. لكن السؤال: ماذا نتعلَّم عندما نتأمَّل في الماضي؟
1. نتعلم أن الله لا يتغيَّر
يقول في المزمور 26:102 “هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ”، وكما يقول الرب في ملاخي 6:3 “لِأَنِّي أَنَا الرَّبُّ لَا أَتَغَيَّرُ...”، ويقول عنه يعقوب: “كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الْأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلَا ظِلُّ دَوَرَانٍ”. لكن ماذا يعني أن الرب لا يتغيّر؟ محبّته لا تزداد لأنها دائمًا كاملة ولا تنقص. لأنه لا يمكن أن يتغيّر في محبّته وحنانه مدى الأيام. الرب لا يغيّر أفكاره. الرب لا يغيّر مواعيده. الرب لا يغيّر مقاصده ومشيئته “ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسانٍ فيندم. هل يقول ولا يفعل؟ أو يتكلّم ولا يفي؟” هذا يبعث على الاطمئنان أن كلَّ شيءٍ مكشوف وعريان أمامه: أفكارنا، أعمالنا وتصرّفاتنا... قال داود في مزمور 7:139 “أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟”
2. نتعلّم أن لا شيء يختفي من وجه الرب
إن كنّا نظنّ أننا نستطيع أن نستتر بأفكارنا وأعمالنا وتصرّفاتنا عن الرب فنحن مخطئون. الرب عالمٌ بكلِّ شيء. ربما تبدو هذه الفكرة مزعجة أن كل شيء مكشوف وعريان أمام ذاك الذي معه أمرنا... أن عيوبنا ونقائصنا وخطايانا كلّها مكشوفة... صحيح أنها فكرة مزعجة لكنها ضرورية، لماذا؟ لكي يعالجها، فمن الضروري جدًا أن يكشفها، ونعترف نحن بها أمامه فيعالجها. لذلك كما تعامل الرب مع إبراهيم وصموئيل وبطرس وبولس ويوحنا وغيرهم، كذلك هو يتعامل معنا أيضًا. ومثلما أدّبهم يؤدّبنا... لذلك علينا أن نأتي بخطايانا تائبين ونادمين وواثقين أن الذي ستر عيوب الملايين سوف يستر عيوبنا نحن أيضًا.
٣. نتعلم أن طبيعة الحياة لا تتغير
طبيعة الحياة لا تتغير، فالسنة عندما تتغير كرقم ليست هي الأساس وليست هي التغيير. ربما تختلف وسائل الحياة والعلم والمعرفة، لكن طبيعة الحياة لن تتغيّر، فالموت سيبقى وستبقى الخطيئة وستبقى شعوب متمرّدة على الرب، فكلّ ما عانينا منه في السنين الماضية سيستمرّ، لأن هذه هي طبيعة الحياة. قال موسى في العدد 10 "أيام سنينا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوّة فثمانون سنة، وأفخرها تعب وبلية.” إذًا هذه هي طبيعة الحياة: آلام، وهموم، ومتاعب. لقد سأل فرعون يعقوب أبو الأسباط: كم هي أيام سني حياتك؟ فقال: "أيام سني غربتي مئة وثلاثون سنة. قليلة ورديّة كانت أيام سني حياتي…”. إذًا عندما نعلم أن الحياة قصيرة وسنينها قليلة، ماذا علينا أن نفعل؟ هل نتشاءم؟ هل نفشل؟ طبعًا لا، بل بنعمة الرب نُسخِّر ما تبقّى من أيام حياتنا لخدمة المسيح وإنجيله. قال حبقوق في 17:3-19 "فَمَعَ أَنَّهُ لَا يُزْهِرُ التِّينُ، وَلَا يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ. يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ، وَالْحُقُولُ لَا تَصْنَعُ طَعَامًا. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلَا بَقَرَ فِي الْمَذَاوِد،ِ فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلَهِ خَلَاصِي. اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي، وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالْأَيَائِلِ، وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي." فلا تستطيع الظروف ولا الضيقات ولا الفقر ولا المرض أن تسلب منا فرحنا بالرب "تفرحون ولا يستطيع أحد أن ينزع فرحكم.” إذًا الحكمة أن نرجع إلى الرب ونثق به، ونؤمن بأن الرب وحده هو مصدر فرحنا وأساسه.
هذا ما يريده الرب منا أن نعترف بضعفاتنا وخطايانا، واثقين أنه وحده غافر الخطايا ويقبلنا كبنين، لأنه هو مصدر الرعاية والعناية والفرح.