ذات يوم جاءني شاب متجدّد حديثًا، يظهر الارتباك على قسمات وجهه، وتبدو الحيرة في نظرات عينيه، وقال لي:
"إن الأفكار الجنسية تهاجمني بشكل مروع، ومع أنني أطردها من رأسي بنعمة الله، إلا أنني منزعج لئلا يكون هذا الأمر خطية."
قلت له: "لا عليك... إن كل مؤمن يتعرّض في حياته لمهاجمة الأفكار الشريرة، ولكن مهاجمة الأفكار الشريرة للمؤمن شيء والخضوع لهذه الأفكار شيء آخر... الأول نسمّيه التجربة، والثاني هو الخطية."
يتحدّث يعقوب في رسالته عن نوعين من التجارب:
الأول: التجارب التي تأتي من الله
والثاني: التجارب التي تأتي من شهوتنا
فعن التجارب التي تأتي من الله يقول: "احسبوه كلّ فرحٍ يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوّعة، عالمين أن امتحان إيمانكم يُنشئ صبرًا. وأما الصبر فليكن له عمل تام، لكي تكونوا تامين وكاملين غير ناقصين في شيء." (يعقوب 2:1-4)
وعن التجارب التي تأتي من خداع الشهوة يقول: "لا يقل أحد إذا جُرِّب: [إني أُجرَّب من قِبَلِ الله]، لأن الله غيرُ مجرَّبٍ بالشرور، وهو لا يجرِّب أحدًا. ولكن كلَّ واحدٍ يجرَّب إذا انجذَبَ وانخَدَعَ من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تُنتِج موتًا." (يعقوب 13:1-15)
يحدّد الرسول ماهية الخطية في هذه الكلمات: "كل من يفعل الخطية يفعل التعدّي أيضًا. والخطيّة هي التعدّي." (1يوحنا 4:3) والخطية بهذا المفهوم هي "عصيان وتمرّد على الله." هي كما قال واعظ مشهور: "التعلّق باستقلال كاذب بعيدًا عن إرادة الله... هي استبدال الحياة لله بـ "الحياة للذّات."
وحين يرتكب الإنسان الخطية يسيء إلى ثلاثة أطراف:
فهو يسيء أولاً إلى الله، إذ يعصى وصاياه كما قال داود في المزمور: "إليك وحدك أخطأت، والشرّ قدّام عينيك صنعت." (مزمور 4:51)
ويسيء ثانيًا إلى الآخرين، فكل خطية نرتكبها نسيء بها إلى إنسان ما أو إلى مجموعة من الناس... نسيء إلى أسرتنا... نسيء إلى مجتمعنا... نسيء إلى كنيستنا... وأخيرًا نسيء إلى أنفسنا... فنحن لا نحطِّم وصية الله، بل نحطِّم أنفسنا على صخرة العصيان.
عندما ارتكب آدم الخطية أضاع حياة الجمال، والحرية، والشركة... نجم عن خطيته موت حيٍّ، صارت الطبيعة ملعونة، وسرى سمّ الخطية في جسم البشرية كلّها، ولُعنت الأرض بما عليها، وشمل التنافر والتنابذ الخليقة كلها... صارت الخليقة كلها تعيش في الأسى والأنين.
إن أعمّ كلمة في العهد الجديد للخطية هي كلمة "هامارتيا" اليونانية، ومعناها "إخطاء الهدف". فالخطية هي إخطاء الهدف الذي ينبغي أن تهدف له الحياة، وأن تصيبه... الخطية هي الفشل في الوصول بالحياة إلى مقاييس الله، والبشر كلهم خطاة بهذا المعنى، فليس منهم من استطاع أن يتمّم شرائع الله في حياته في كل الأوقات. ولذا نقرأ كلمات داود: "الرب من السماء أشرف على بني البشر، لينظر: هل من فاهم طالب الله؟ الكل قد زاغوا معًا، فسدوا. ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد." (مزمور 2:14-3)
ومن هنا لا بدّ للإنسان أن يأتي إلى المسيح لكي يخلص من خطاياه، ويولد ثانية من الله، فتغفر خطاياه، ويتحرّر من سلطان الشيطان، ويتوقّع فداء جسده الترابي حين يأتي الرب يسوع المسيح ثانية.
لكننا يجب أن ندرك أن نوال الخلاص لا يعني "العصمة من الخطية" كما لا يعني التحرّر من التعرّض للتجربة، بل على العكس إن إبليس يبدأ في تجربتنا بعد أن ننال الخلاص، ولذا فلا بدّ لنا أن نفهم كل شيء عن التجربة.
الفرق بين الخطية والتجربة
1- التجربة ليست هي الخطية ولكنها إغراء لعمل الخطية
أو بمعنى أدقّ إن الخضوع لإغراء التجربة هو الخطية، فالتجربة لا تصبح خطية إلا إذا انتقلت من نطاق الإغراء إلى نطاق السقوط. قال واحد من مشاهير الوعاظ: "إنك لا تستطيع أن تمنع الطيور الجارحة من أن تحلّق فوق رأسك، لكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشِّش في شعرك."
2- التجربة يسمح الله بها لإظهار حقيقة اختبارنا وتعليمنا عدم الاعتماد على ذواتنا
فنحن نقرأ في إنجيل متى الكلمات: "ثم أُصعد يسوع إلى البرّية من الروح ليُجرَّب من إبليس. فبعدما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة، جاع أخيرًا. فتقدَّم إليه المجرّب..." (متى 1:4-3)
ترينا الكلمات أن الروح القدس أصْعَدَ يسوع ليُجرَّب، وكان الغرض من التجارب التي تعرّض لها "يسوع" هو إظهار نصرته، وحقيقة شخصيته، فآدم الأول جرّبه إبليس في الجنة فأسقطه. أما آدم الثاني الآتي من السماء فجرّبه في البرية، ولكنه لم يستطع الانتصار عليه. لقد أظهرت التجربة حقيقة شخصيته وعظمة نصرته.
وبينما أظهرت التجربة نصرة المسيح الذي لم يكن ممكنًا أن يغلبه الشيطان، أظهرت ضعف بطرس، وعلّمته ألّا يعتمد على "ذاته".
تعال معي لنقرأ كلمات لوقا عنه: "وقال الرب: [سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة! ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعتَ ثبِّت إخوتك]. فقال له: [يا رب، إني مستعدٌّ أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت!] فقال: [أقول لك يا بطرس: لا يصيح الديك اليوم قبل أن تُنكِر ثلاث مراتٍ أنك تعرفني." (لوقا 31:22-34)
وقد كان... سقط بطرس أمام ضغط التجربة، وأنكر سيِّده ثلاث مرات، وتعلَّم ألّا يتّكل على ذاته بل على قوة ونعمة إلهه.
لذا كتب بولس الرسول إلى القديسين في غلاطية قائلاً: "أيها الإخوة، إن انسبق إنسانٌ فأُخِذ في زلَّةٍ ما، فأصلحوا أنتم الروحانيّين مثلَ هذا بروح الوداعة، ناظرًا إلى نفسك لئلا تجرَّب أنت أيضًا." (غلاطية 1:6)
إن المصنع الموثوق في آلاته يجرّب موتوراته وآلاته قبل عرضها للتأكد من سلامتها.
3) التجربة لا تهاجمنا فقط في نقاط الضعف التي في حياتنا بل تهاجمنا في نقاط القوة التي فينا
كتب بولس الرسول للقديسين في كورنثوس قائلاً: "إذًا من يظن أنه قائمٌ، فلينظر أن لا يسقط. لم تُصِبكم تجربة إلا بشرية. ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا." (1كورنثوس 12:10-13)
نقرأ عن موسى الكلمات: "وأما الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض." (العدد 3:12) ومع ذلك فقد سقط في خطية الغضب، ونحن نقرأ عن سقطته في هذه الكلمات: "فأتى موسى وهارون من أمام الجماعة إلى باب خيمة الاجتماع وسقطا على وجهيهما، فتراءى لهما مجد الرب. وكلّم الرب موسى قائلاً: [خذ العصا واجمع الجماعة أنت وهرون أخوك، وكلّما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها، فتخرج لهم ماءً من الصخرة وتسقي الجماعة ومواشيهم." فأخذ موسى العصا من أمام الرب كما أمره، وجمع موسى وهارون الجمهور أمام الصخرة، فقال لهم: [اسمعوا أيها المردة، أمن هذه الصخرة نُخرِج لكم ماءًا؟] ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماءٌ غزيرٌ، فشربت الجماعة ومواشيها. فقال الرب لموسى وهارون: [من أجل أنكما لم تؤمِنا بي حتى تقدّساني أمام أعين بني إسرائيل، لذلك لا تُدخِلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها." (العدد 6:20-12)
لقد طلب الرب من موسى وهرون أن يكلّما الصخرة، لا أن يضرباها، فقد ضُربت مرة (خروج 6:17)... وبما أنها رمز للمسيح فلا يمكن أن تُضْرَب ثانية، لكن موسى لم يقدِّس الرب في عيون بني إسرائيل، لقد أغضبه تصرّفهم فخرج عن طوره وضرب الصخرة مرتين بعصاه وحُرم من الدخول إلى أرض كنعان. وهكذا سقط في نقطة القوة في حياته.
إن التجربة تهاجمنا في نقطة القوة فينا... النقطة التي لا نحرسها ولا نعمل حسابًا لهزيمتنا فيها.
هل أتاكم خبر ذلك الملك الذي بنى سورًا سميكًا حول مدينته؟ فقد اطمأن إلى صلابة ذلك السور، وذات يوم هاجمه ملك آخر جاء ليغزو مدينته بمدفع واحد. ولما رأى الملك المدفع الواحد ضحك مقهقهًا، إذ ظن أن ذلك المهاجم مجنون، وأنه لن يقوى على غزو مدينته، لكن الملك المهاجم ركّز مدفعه على نقطة معينة في ذلك السور كانت نقطة قويّة ومتينة، وبدأ يقذفها بنيرانه... في البداية لم يتأثّر السور، ولكن بتكرار قذف القنابل على هذه النقطة بالذات، استطاع الملك أن يفتح ثغرة صغيرة، أدخل منها غلامًا فتح له باب المدينة، واستيقظ ملك المدينة ذات صباح ليرى جيش العدو وقد دخل مدينته من نقطة القوة فيها واستولى على عرشه.
4) التجربة تهاجمنا في ساعة إهمالنا وتهاوننا
نقرأ عن داود: "وكان عند تمام السنة، في وقت خروج الملوك، أن داود أرسل يوآب وعبيده معه وجميع إسرائيل، فأخربوا بني عمون وحاصروا رِبَّة. وأما داود فأقام في أورشليم." (2صموئيل 1:11) لقد كان "التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنين في الخيام." ويوآب وعبيد داود نازلين على وجه الصحراء، وكانت الحرب شديدة، وكان يجب أن يكون داود في ذلك الوقت مصلِّيًا لأجل الجيش أو على الأقل معتكفًا ينتظر أخباره، لكننا نراه يتمشّى على سطح بيت الملك، يتطلَّع إلى بيوت جيرانه ويتفرّس في نسائهم.
"وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشّى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحمّ. وكانت المرأة جميلة المنظر جدًا." (2صموئيل 2:11) وكان يجب على داود أن يعود، وأن يركع أمام الله، وأن يطلب منه أن يغفر له تطلّعه إلى هذه المرأة العارية، وأن يرجوه أن يمسح من ذاكرته منظرها... ولكن داود لم يفعل. لقد كان في تلك الليلة في حالة إهمال تام، نسي مزاميره الحلوة، نسي كلماته المباركة: "جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع." "فأرسل داود رسلاً وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها." (2صموئيل 4:11)
لقد هزمت التجربة داود في ساعة إهماله وتهاونه...