"أنتَ هنا، حاضرٌ بيَننا، لذا فإنِّي أعبدُكَ. أنتَ هنا، تعملُ في وسطِنا، لذا فإنِّي أعبدُكَ.
أنتَ هو فاتحُ الأبواب، صانعُ العجائب العِظامْ والحافظُ لعهدِكَ. أنتَ النورُ في الظلامْ، نعمْ يا إلهي، هذا هوَ مَنْ أنتَ.
"أنتَ هنا، تلمُسُ كلَّ قلب، لذا فإنِّي أعبدُك. أنتَ هنا، تشفي كلَّ نفْسٍ، لذا فإنِّي أعبدُك. أنتَ هنا تغيِّرُ مَسارَ الحياة لتُصبحَ نقطةَ تحوُّلٍ، لذا فإنِّي أعبُدك. أنتَ هنا، تُصلِحُ كلَّ قلبٍ، لذا فإنِّي أعبدُك."
(ترنيمة مترجمة - Way Maker)
ترى ما هو مدى تأثير الموسيقى على مشاعرنا وأحاسيسنا وأفكارنا؟ وكيف يتجاوب معها كيانُنا الداخلي ووجدانُنا؟ بالنسبة لي حين استمعتُ مؤخرًا إلى هذه الكلمات الآنفةِ الذِّكْر تُعزفُ على لحنٍ حنون جذَّاب تأثَّرتُ فعلًا، ودخلتْ مع موسيقاها المميَّزة إلى حنايا نفسي الداخلية، وألهبتْ روحي بالفعل لأنَّها دليلٌ واضحٌ وصريح على حضور ملكِ الملوك وربِّ الأرباب. وكذلك انتقلتْ بي أفكاري إلى عالمٍ آخَر أرقى وأسمى من كلِّ ما هو حولي. لا عجبْ، فالفريق المرنّم يُدعى "الموسيقى تلتقي بالسماء Music meets heaven". والآن ماذا عنكَ وعنكِ؟
حين وُضِعَت الطفلة الصغيرة بيلّلا في المستشفى، وأُخضعتْ للمعالجة الكيميائية بسبب إصابتها بمرض السرطان في ولاية داكوتا الأمريكية، قرَّر الفريق الطبّي استخدامَ العلاج بالموسيقى بالإضافة إلى الأدوية المستخدَمة لمداواتها. ولقد اختبرَ الكثيرون من المرضى صغارًا وكبارًا تأثير الموسيقى القويّ على مزاجِهم دون أن يُدركوا كيف ولماذا؟ لكنَّ الباحثين مؤخَّرًا سجَّلوا منافعَ الموسيقى في التَّطبيب والصحة البدنية والعقلية والنفسية. لهذا فإنَّنا نجدُ الآن كيف أنَّ الموسيقى أصبحتْ من الوَصْفات التي ترافقُ العلاج الدوائي للعديد من مرضى السرطان كالطفلة بيلّلا، وكذا للذين يعانون من مرض الشَّلل الرُّعاشي Parkinson، وكذا مرض الخرف Alzheimer، هذا بالإضافة إلى من تصيبُهم الصَّدمات النفسية والحوادث المفاجئة بشكل عام.
ذكَّرني هذا الخبر الذي قرأتُه آنفًا بخبر آخر كنت قد شاهدته على التلفاز. إذ تكلّم عن إحدى الجدَّات المصابة بمرض الخرف لسنواتٍ عديدة، وكانت ابنتها تقدِّم لها العناية والرعاية لها بشكلٍ كامل، لأنها فقدت ذاكرتها بالتمام، ولم تعدْ تتذكّر شيئًا من طريقة الاعتناء بنفسها، أو حتى كيف تتناول طعامها اليومي من الطَّبق. شاهدتُ هذه الجدّة بأمِّ عيني حين جلستْ على مقعد البيانو، وهي العازفة الموهوبة منذ صغرها، وراحت تعزف الألحان المتعدِّدة الرائعة التي كانت مخزونة في ذاكرتها الماضية تمامًا كما يحفظ الإنسان الآلي (الكمبيوتر) في قرصه الثابت أو الصلب Hard Disc ما نسجِّله فيه من معلومات وأرقام وسجلّات. كان أداؤها مصدرًا للراحة والهدوء النفسي لها ولكلِّ مَن جلس قُبالتَها ليستمتعَ به. وحين طلبت ابنتُها منها أن تعزف هذا اللحن أو ذاك، ولشدّة دهشتي رأيتها تتجاوب معها، فتتوقّف للحيظاتٍ بسيطة فقط لتسترجعَ الموسيقى المخزّنة في ذاكرتها الماضية، ومن ثم تبدأ من جديدٍ في العزف على مفاتيح البيانو كامرأةٍ عاديّة متمرِّنة لا تمتُّ إلى المريضة بصِلَة ودون خوف أو وجَل. بل بكلِّ فرَح واستمتاع أدَّتْ كلّ الألحان التي طُلبت منها بثقةٍ وجدارة. نعم، حتى مريضةُ الألزهايمر العازفة استطاعت أن تلعبَ دورًا كبيرًا في تأثير ألحانها على جاراتها ومن هم مثلُها أيضًا يعانون من المرض نفسه.
هل سمعتَ يا قارئي عن الموسيقار الكبير الشهير Johann Sebastian Bach (جون سيباستيان باخ) الألمانيّ والمولود في القرن السابع عشر الذي عُرف عنه إبداعُه في تأليفه للألحان والموسيقى في عصره؟ بالطبع سمِع به أغلبنا. فلقد استُخدمت ألحانه وكذا ترانيمه في الكنيسة اللوثرية على نطاق واسع وشاسع. لكنَّ الأمر المستغرَب جدًا في حياته، والذي احتار فيه الباحثون، هو كيف استطاع (باخ) أن يتحمَّل وفاةَ ثلاثةٍ من أطفاله من أصل سبعة أولاد أنجبتْهم له زوجته (ماريا باربرا باخ)، ومن ثم فقدانَها هي! وحين تزوَّج امرأته الثانية (آنا ماجدلينا فولكن) ابنة نافخ البوق في الأوركسترا عنده، تألَّم كثيرًا أيضًا إذ بعد أن أنجبت له ثلاثةَ عشر طفلًا مات سبعةٌ منهم قبل أن يبلُغوا الخامسة من العمر! بالحق لقد عانى (باخ) وأسرتُه كثيرًا من فواجعَ مريرة من جرَّاء الفقدان والأسى. لكنَّ السؤال يظلُّ يحوم إذ كيف استطاع أن يتأقلمَ مع هذه الأحزان؟ ويتساءل الباحثون قائلين: كيف لم يتوقّفْ قلبُه عن الخفَقان! وعلى رأس كلِّ هذا، كيف تمكَّن من الاستمرار في تأليف هذه الموسيقى البديعة؟! وهنا يأتي الجوابُ الأمثَل لكلِّ ما عاناه في حياته، وهو أنَّ باخ كان وفي كلّ مرّة يُنهي فيها مقطوعته الموسيقية يكتب هذه الكلمات باللاتينية: (Soli Deo Gloria) أي: المجدُ لله وحده. وفي بداية كلِّ مقطوعة: Lord Help أي (أعِنّي يا ربّ.) وفعلًا كان هذا هو السرُّ الذي استمدَّ منه القوّة والعون. وعليه، يستطيع كلُّ شخص من خلال مقطوعات باخ الموسيقية أن يصلّي لأنَّ الموسيقى في حدِّ ذاتها كانت بمثابة صلاةٍ وموسيقاه كانت عبارة عن مناجاة بينه وبين الله." (عن الإنترنيت)
ليس للموسيقى تأثيرٌ على الأمراض والألم والفراق والنفس فحسب، بل لها تأثيرٌ كبير أيضًا في التعرُّف على الخالق العظيم المحبّ والمنَّان، فيَطفرُ القلبُ بالفرح ابتهاجًا، وتنطقُ الشِّفاه بالتسبيح والتهليل لصاحب النِّعَم والإحسان. فتصعدُ التشكُّرات والابتهالات على كلِّ ما صنع ومنحَ وأعطى ووفَّر. لهذا نقرأ في سفر المزامير ترانيمَ تسبيحٍ وحمدٍ لله على عُظْم صنيعه وبركاته التي لا تُعّدُّ ولا تُحصى. فتُعزَفُ الكلماتُ على ذوات الأوتار كالرَّبابة والعود، والآلات الأخرى كالنَّاي والدّف. وهاكَ واحدًا من مئات المزامير والتسابيح التي دُوِّنت في الكتاب المقدس إذ يختم فيه صاحبه بهذه التهاليل حمدًا وشكرًا لله. قال: "هلّلويا. سبِّحوا الله في قدسه. سبِّحوهُ في فلك قوّته. سبِّحوه على قوّاته. سبِّحوه حسبَ كثرة عظمته. سبِّحوه بصوت الصُّور. سبِّحوه بربابٍ وعود. سبِّحوه بدُفٍّ ورقصٍ. سبِّحوه بأوتارٍ ومزمارٍ. سبِّحوه بصنوج التصويت. سبِّحوه بصنوج الهتاف. كلُّ نسمة فلتسبِّحِ الرب. هللويا." (150)
هذه الموسيقى والكلمات هي جرعاتٌ من البلسم تشفي الجسد والنفس والروح معًا. تمامًا كالبلَسان لأعماقنا الدَّفينة فتُبهجُها وتداويها كما تُدواى الجروح. وما يكتشفهُ العلماءُ اليوم عن تأثير الموسيقى في الجسد والنفس نجدُه منذُ بداية الخليقة معلومًا عند خالقنا العظيم الذي كوّنَ هذا الإنسان، ونفخَ في أنفه نسمة الحياة، وجعلَها تتجاوب مع خالقها وباريها. لقد قدّم لكلِّ إنسانٍ علاجًا ودواءً ناجعًا متوفرًا للجميع للكبير والصغير. حتى ولو لم تكنْ لدينا الوسيلةُ لنستمع، نقدر أن نستمتع وقت الفرح، ونترنمَّ أيضًا وسط المتاعب والأمراض والأحزان وهكذا نصنع موسيقانا الخاصة بنا فترتفع صلواتٍ حرَّى إلى إلهنا الذي يسمع والذي يستمعُ لأنَّاتِ قلوبنا وتسبيحاتنا وابتهالاتنا، ويقبلها كرائحة بخور عطرة.
وأنت صديقي هلاَّ دغدغتِ الموسيقى قلبَك فلعِبت في أوتاره، وجعلَتْك تنشد وتصفِّق وتغرِّد لهذا الإله العظيم الذي يهمُّه أمرُك أنت؟ وحياتُك، وظروفُك؟ اسمع ماذا يقول المرنم هنا: في قلبِ العاصفة تبقى أنتَ المتسلِّط الأوحد. في وسط الحرب، تحرِسُ نفسي وتحميها، أنتَ مِرساةُ نفسي المؤتَمَنة، وحين تتحطَّم أشرِعَتي، بمحبّتك تُحيطُني وأنا في قلب العاصفة تحتَضِننُي. ("في قلب العاصفة" للمرنم راين ستيفنسن)
وأخيرًا يا قارئي أختم مقالتي بهذه الكلمات الصادرة عن قلبٍ مفعمٍ بالنَّدم على الخطية في حياته، والتي ترنَّم بها المرنِّم فكانت صلاةَ توبة يبثُّ فيها شجونه وحناياه إلى الله القدوس ليطلب منه غفران خطاياه وهو يعزفُها على أوتار العود إذ قال: "ها صلاةُ التوبة في شفتي، وصراخٌ من عُمقِ الأحشاء، يتفجَّر يتَّقد لهيبًا، ينتشرُ في كلِّ الأرجاء. يا إلهي دعَوْتُك أنجدْني أبرئْني واشفِني من الدَّاء. إبليسُ ربَطَني بقيودٍ وجعَلني عبدَ الأشياء، فَلْتَكْسرَ شوكتَه ربِّي مَنْ مثلُكَ يمنحُني فِداء." (الكاتب الأخ فرحان العبد، والملحِّن بهجت عدلي)
نعم يا صديقي من مثلُ المسيح يمنحني فداء؟! رأى يوحنا المعمدان يسوع آتيًا من بعيد فقال عنه: "هوذا حمَل الله الذي يرفع خطية العالم!" (29:1) ليس هذا فحسب بل صرَّح يسوع نفسه إذ قال هذه الأعداد الشهيرة في كلمة الله: "لأنَّه هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذلَ ابنَه الوحيد، لكي لا يهلِك كلُّ مَن يؤمن به، بل تكونُ له الحياةُ الأبدية. لأنَّه (أي الله) لم يرسلِ ابنَه إلى العالم ليدينَ العالم، بل ليَخْلُصَ به العالم." (يوحنا 16:3-17)
فإذا اختبرت هذا الفداء العظيم لخطاياك لا بد أن تتفوَّه بكلمات الشكر والحمد له على عطية العطايا الرب يسوع، وعلى نعمته المتفاضلة جدًا عليك. فتقدّم ترانيم الحمد والامتنان له على أنغام الموسيقى إلى أبد الآبدين!