في معتقدات الكثير من الشعوب تكتسي الشفاعة والوساطة رداءً فضفاضًا فارغ المحتوى.
ففي معظم الأحوال، هناك أمم تصنِّف بعض أشخاصها في مرتبة الشفيع أو الوسيط تجاه القوة العظمى التي يهابونها، ولا يتجرَّأون على الاقتراب منها. ولعلّ ذلك يرجع إلى تلك الرهبة التي جعلها الله في طبيعة مخلوقاته العاقلة كي يوجّه قلوبهم إلى جلال سلطانه، وقداسة جوهره، والحاجة لرحمته وخلاصه الفريد. إلا أنّ الكثيرين تاهوا في طرق متشعّبة وعوائد ومعتقدات أبعدتهم عن الطريق المستقيم بسبب قوة وسلطان الخطية التي سكنت في قلوبهم بعد السقوط في خطية العصيان والتمرّد التي ورثوها، وبسبب قوة الشر المتمثّلة بالشيطان وجنده العاملين دومًا ضدّ مشيئة الله، ولإبطال مقاصده التي تعمل دومًا لخلاص بني الإنسان بقبولهم لعمل الفداء.
نحن نسمع عن وساطات وشفاعات في المجال الأرضي البشري، كأن يطلب ملكٌ أو أميرٌ أو أحد عظماء هذا الدهر من حاكمٍ آخر صديقٍ له في الدولة نفسها أو في دولة أخرى، لإصدار عفو عن شخص محكوم عليه بالإعدام فتُلَبّى رغبة ذلك الصديق. ويبني بعضهم على ذلك في العقل الباطن بما يخصّ أحكام الله وشريعته وعدله فكأن هؤلاء يصلّون قائلين: لتكن مشيئتنا كما هي على الأرض كذلك في السماء! فالشفاعة والوساطة بالمفهوم الروحي لها شأن آخر مختلف كليًا بحسب عدل الله المطلق. وفي بعض الطوائف يُسمّى الطفل الوليد على اسم أحد القديسين ليكون ذلك الأخير شفيعَه إلى الله!
لكن كلمة الله في العهدين القديم والجديد تبيّن بكل وضوح أن هذا المسعى بعيد المنال بل مستحيل التحقُّق، فآدم وحواء لم يستطيعا أن يشفعا لقايين حين قتل أخاه هابيل، فلُعن من الله ولا شكّ في أنه هلك بسبب فعلته الشنيعة وإصراره على ذلك رغم تحذير الله له قبل ارتكاب الجريمة...
والأكثر بُعدًا عن الحقائق الروحية هو أن بعض الناس يطلبون شفاعة كاهن أو قديس لأجل من مات من ذرّيتهم وذلك من رابع المستحيلات...! فالحيُّ يُمكِن أن يتَّعِظ ويتوب ويطلب الله إذا لمسَتْه يد النعمة الإلهية. وبعد ذلك يستحقّ شفاعة الرب الذي يقبل الخطاة التائبين على حساب دم الفداء؛ وهذا يعني أن الميت قد انتهى أمره إلى غير رجعة، وسينتظر في الهاوية حتى يحين وقت الحساب الأخير، حيث سيصدر الحكم الرفيع من الربّ ديّان الجميع.
ولنا في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة على انتفاء الشفاعات من قِبَل الأنبياء والقديسين:
1- لم يستطع إبراهيم أبو المؤمنين الذي دُعي "خليل الله" أن يشفع لسدوم وعمورة وبقية مُدُنِ الدائرة التي قرّر الرب إبادة أهلها لعظم شرورهم بدينونة النار والكبريت - ولعلمه بعدم استحقاقه للشفاعة فقد شرع يساوم مع الرب – إذا جاز التعبير بأنه عسى أن يكون هناك أبرار في المنطقة بقوله: "أديّانُ كلِّ الأرضِ لا يصنع عدلاً"؟ وبعد أن وصل إلى عدد قليل، انسحب أخيرًا من دعواه لأنه أدرك أنه كان يترافع مع الرب في قضية خاسرة. (تكوين 23:18-33)
2- لم يستطع موسى النبي الذي دُعي "كليم الله" أن يشفع لبني إسرائيل الذين أخطأوا بعبادتهم للعجل الذهبي بعد خروجهم من مصر. في الوقت الذي كان هو على الجبل لاستلام لوحَيِ الشريعة من يد الرب بواسطة الملاك... وبعد أن أوقع الرب عقابًا وقتيًّا فأمات ثلاثة آلاف رجلٍ من الجماعة أدرك موسى أن الله ما زال غاضبًا وأن خطيئة ذلك الشعب لن تُغفر. فوقف يتضرّع إلى الله قائلاً: "والآن إن غفرت خطيّته، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت." فقال الرب لموسى: "من أخطأ إليّ أمحوه من كتابي." (خروج 32:32-33)
لقد طلب موسى أن يهلك نفسه من أجلهم، فأكّد له الرب أن هذا غير ممكن، فهو لا يصلح للفداء وأن مطلبه كان بطريقة خاطئة. وقد أدرك أخيرًا مدى ضعفه حين منعه الله من دخول أرض الموعد لأنه خالف مطلب الله، فضرب الصخرة بدلاً من أن يكلّمها وما يحتويه هذا الرمز من معنى عظيم لأن الصخرة كانت ترمز إلى المسيح.
3- هذا ما أدركه أيضًا بولس الرسول: إذ كتب في رسالته إلى أهل رومية ما يلي: "أقول الصدقَ في المسيح، لا أكذب، وضميري شاهدٌ لي بالروح القدس: إنَّ لي حُزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع. فإني كنت أودُّ لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل أخوتي أنسبائي في الجسد." (رومية 1:9-3) فقد كان واثقًا أن تضحيته حتى الهلاك من أجلهم لا تنفعهم بشيء، وأن ليست له الكفاية أو القدرة على ذلك.
4- وقد أكّد الرب على لسان حزقيال النبي أنه لا يوجد شفيع أو وسيط من البشر مهما كان تقيًّا ومقرّبًا حتى من الله. ففي الأصحاح 14 من سفر حزقيال تُبيِّن الأعداد 12-30 أنه لا يوجد بين البشر من يستحق أن يشفع... فيقول مكرّرًا: "إن أخطأَت إليَّ أرض وخانت خيانة، فمددت يدي عليها... وكان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة: نوح ودانيآل وأيوب، فإنهم إنما يخلِّصون أنفسهم ببرِّهم، يقول السيد الرب." وفي عدد 20 يوضّح بقوله: "فحيٌّ أنا، يقول السيد الرب، إنهم لا يُخلّصون ابنًا ولا ابنةً. إنما يخلّصون أنفسهم ببرّهم."
5- يشرح إشعياء النبي في الأصحاح 59 حالة الفساد الأخلاقي والسلوكي لبني الإنسان ويَخلص إلى النتيجة "فرأى الرب وساء في عينيه أنه ليس عدل" (ع 15)، وهو الذي أكّد بالوحي هذه الفكرة في أماكن متعدّدة؛ منها ما قاله في ذات المعنى: "وقد صرنا كلّنا كنجسٍ، وكثوب عدّةٍ كل أعمال برّنا، وقد ذبُلنا كورقة، وآثامنا كريحٍ تحملنا" (6:64) فهو يعمّم ذلك واضعًا نفسه في المقدّمة؛ هذا مع أن الكتاب المقدس لم يذكر خطية ظاهرة لذلك النبي. فلم تكن له خطايا ظاهرة.
6- من خلال دراسة الكتاب المقدس كله لم نجد حالة شفاعة واحدة لنبيٍّ أو قدّيس مهما كان مكرّمًا. وكل ما نجده هو صلوات بعض القديسين إلى الله طالبين منه أن يفتح عيون الخطاة وينير أذهانهم لعلّهم يُقبِلون إلى التوبة. وهذه الصلوات تُستجاب عندما تتعامل نعمة لله مع المُصَلّى لأجلهم ويقبلون الخلاص على حساب دم الفداء. وقد نجد كثيرًا من طلبات أنبياء وقديسين لكي يجري الله عدله على الخطاة. كما نقرأ في سفر الرؤيا: "وَلَمَّا فَتَحَ الْخَتْمَ الْخَامِسَ، رَأَيْتُ تَحْتَ الْمَذْبَحِ نُفُوسَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ، وَمِنْ أَجْلِ الشَّهَادَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ، وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: «حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟» (رؤيا 9:6)
إن المبادئ الروحية الثابتة في كلمة الله هي هذه:
أ- الخطيئة هي مسألة شخصية فردية: "النفس التي تخطئ هي تموت." (حزقيال 20:18)
ب- لا يوجد في الكون إنسان بارٌّ بذاته: "ليس بار ولا واحد..." (رومية 12:3)
ج- التبرير هو فعل إلهي، يتجاوز الإله القدير الحكيم عن عجز الإنسان إذ وقد رتّب له فدية بحيوان بريء يُذبح تكفيرًا عن خطية الإنسان. فمنذ عهد آدم وهابيل ابنه حتى عهد الناموس... حيث تم تنظيم هذه الذبائح شكلاً ومضمونًا... وإن هذه جميعها كانت ترمز إلى الذبح العظيم! "وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ." (غلاطية 4:4-5)
يصف إشعياء النبي هذا الحدث بروح النبوّة بعد ذكره لعجز الإنسان التام كما تقدّم. فيقول: "فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ." (إشعياء 16:59) وهذا يعني أن الله افتدى الإنسان بنفسه بواسطة تجسّد الابن المبارك وموته على الصليب، فاستحقّ أن يخلّص وأن يشفع أيضًا.
ويوضّح ذلك أيضًا بقوله: "من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصي مع أثمة، وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين." (إشعياء 12:53)
ويقول الرسول بولس: "فمِنْ ثمَّ يقدر أن يخلّص أيضًا إلى التمام الذين يتقدّمون به إلى الله، إذ هو حيٌّ في كل حين ليشفع فيهم." (عبرانيين 25:7)
وهو يجزم في مكان آخر بوحدانية هذا الوسيط والشفيع وفرادته: "لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ." (1تيموثاوس 5:2)
ويؤكّد أيضًا أنه لا شفاعة للخاطئ بل الشفاعة تكون للمؤمن الذي يخطئ عرضًا. "وَلكِنَّ الَّذِي يَفْحَصُ الْقُلُوبَ يَعْلَمُ مَا هُوَ اهْتِمَامُ الرُّوحِ، لأَنَّهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يَشْفَعُ فِي الْقِدِّيسِينَ." (رومية 27:8) "يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضًا." (1يوحنا 1:2-2)
إن المخلّص الوحيد والشفيع الوحيد الرب يسوع المسيح يدعو كل إنسان ليقبل فداءه ويتمتّع بشفاعته، فبابه دائمًا مفتوح للذين يطلبونه من قلوبهم. وأما الآخرون فهم شفعاء لا يشفعون ووسطاء لا ينفعون.