يقول الرب يسوع لكنيسته في العالم: "أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُملَّح؟
لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاس." (متّى 13:5)
يخاطب الرّب يسوع هنا كنيسته الحيّة والموجودة في الأرض، كل الأرض، قائلًا إنّها ملح الأرض. ووصْفُ الكنيسة بأنّها ملح الأرض يحمل عدّة صور ورسائل:
ينتشر الملح في كل بحار العالم ومحيطاته، وكذلك على الكنيسة أن تنتشر وتتواجد وتخدم في كل العالم طاعةً لوصيّة الرّب يسوع العظمى: "دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ. آمِينَ." (متّى 18:28-20)
الملح الخالي من الشّوائب أبيض اللّون، وهذه إشارة الى طهارة الكنيسة وخلوّها من شوائب الخطيّة. يكون الملح عادةً من أقلِّ العناصر حضورًا عند إعداد الطّعام، ولكنّه أكثرها فاعلية. وهذا يعني بأنّ على كنيسة الرّب يسوع أن تكون فعّالة في خدمتها بغضّ النّظر عن تعدادها.
يُستخدَم الملح في إعداد الطّعام والمخلّلات، وفي التّنظيف وصناعة الصّابون. وبنفس المعنى، فالكنيسة مدعوّة لخدمة الله والنّاس في شتّى نواحي الحياة، وخصوصًا في خلاص النّاس وطهارتهم من حياة الخطيّة.
وجود الملح يعطي الطّعام مذاقه ونكهته، ووجود الكنيسة في العالم يعطيه جمالًا وبرًّا وقداسة ونورًا يقود النّاس في دروب الحياة.
وأهمّ وظيفة للملح هي حفظ الطّعام من الفساد، والكنيسة الحيّة تصلّي وتعمل باجتهادٍ على حفظ العالم من نجاسة الخطيّة وشرورها.
في القرن الميلادي الأوّل، أي في أيّام الرّب يسوع المسيح، وحتّى في أيّامنا، لا يزال الملح هو حافظ الطّعام الطّبيعي والرّئيسي، وعلى الكنيسة اليوم أن تتابع رسالتها في حفظ العالم من الانحلال الرّوحي والأخلاقي، وبالتّالي حفظه من الدّمار والهلاك.
نقرأ في الكتاب المقدّس بأنّ الله كان يريد الحفاظ على مدينة سدوم من الدّمار إن وُجِدَ فيها عشرة أبرار، ولكنّه لم يجد بها أبرارًا لحفظها، فدّمرها بسبب شرور أهلها. فالكنيسة كانت وستبقى سبب حفظ البشريّة من الهلاك والدّمار.
هذه هي الصّورة المثاليّة الواجب تواجدها في حياة الكنيسة، أن تكون ملحًا نقيًّا يعمل بفاعليّة في الأرض. من أجل ذلك يحذّر الرّب يسوع الكنيسة من فقدان ملوحتها، أي من سقوطها في مستنقع الفساد. إن فساد الكنيسة يعني فقدان أهمّيتها وقيمتها ورسالتها في العالم... وللأسف الشّديد، فإن قسمًا كبيرًا من الكنيسة قد فقد ملوحته في أماكن كثيرة في العالم. والسّؤال هو:
كيف تفسد الكنيسة الّتي هي ملح الأرض؟
تفسد الكنيسة بطرقٍ متنوّعة وكثيرة، منها:
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تبتعد عن إطاعة وصايا الله والخدمة والعمل بحسب إرادته.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما لا تمجّد الرّب يسوع المسيح، ولا تعطيه مركز القيادة والسّيادة والرّعاية في مسيرتها.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما لا تبشّر بإنجيل الخلاص لكلّ النّاس، ولا تدعوهم إلى التّوبة والرّجوع إلى الله، ولا تعلن الحقيقة بأنّ الخلاص هو نعمة من الله، ويتمّ الحصول عليه فقط بالإيمان بالرّب يسوع وموته على الصّليب من أجل التّكفير عن خطايا العالم أجمع.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما لا يظهر، وبالحريّ ينعدم، ثمر الرّوح القدس ومواهبه في حياة أعضائها، وعندما لا تتوفّر الشّروط الكتابيّة لقادتها ورعاتها.
تفقد الكنيسة ملوحتها عند إهمال أعضائها وخصوصًا رعاتها لدورهم في الرّعاية وتعليم حق الإنجيل.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تساير العالم، وتتنازل عن حقّ الإنجيل المقدّس، وعن تعاليم الكتاب المقدّس وعقائده. أي عندما تهتم بما للنّاس وليس بما لله، وذلك بعكس الرّب يسوع المسيح الّذي لم يتورّع عن توبيخ بطرس عندما قال له: "اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ." (متّى 23:16)
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تتمسّك بتعاليم النّاس ووصاياهم وتقاليدهم الّتي تتعارض بوضوحٍ صارخٍ مع حقّ الله في الكتاب المقدّس.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تسايـر العالم، وتقبل ديانات العالم، وتتهاون في إعلان الله الواضح بأن الرّب يسوع المسيح هو المخلّص الوحيد للعالم، وبأنّه الطّريق والحق والحياة.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تعمل وتركّز فقط على أداء الطّقوس والقيام بتنفيذ خدماتٍ معيّنة، وبالتّالي تتجاهل وتنسى وتُهمل ما يجري في العالم من حولها، أي عند ادّعاء الورع والتّقوى لدرجة الانعزال عن المجتمع وعدم المبادرة لخدمة النّاس.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تخاف وتمتنع عن تعليم وقول الحقّ، وعندما تجامل العالم وتعمل على كسب القبول من النّاس، ولا توبّخ الخطاة ولا تدعوهم إلى التوّبة والرّجوع إلى الله، ولا تنخرط في العمل من أجل الحق والعدل والسّلام، وعدم مقاومة الباطل والظّلم والحروب.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تنافق الأقوياء وأصحاب المال والنّفوذ والسّلطة، وتصمت أمام الظلمٍ والفساد، بل تعمل على مدح السّلطات الدّينيّة والسّياسيّة والاقتصادية الفاسدة وتعظيمها.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما لا يكون لها تأثيرٌ يُذكر في حياة النّاس اليوميّة، ولا تسير في خطى ربّ المجد يسوع "الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ."
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تتهرّب من رسالتها ولا تُسَمّي الأشياء كما هي في حقيقتها، بعكس الرّب يسوع المسيح الّذي خاطب رجال الدّين الأشرار قائلًا: "أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَق. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ." (يوحنّا 44:8)
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تكثر الوعظ والتّعليم عن المستقبل، أي عندما تصبح النّبوءات والاجتهاد في تفاسيرها هي محطّ اهتمام الكنيسة الأساسي. أي عندما تنفصل الكنيسة عن واقع الحياة اليوميّة، ولا تعظ ضد الخطيّة وشرورها، ولا تدعو النّاس إلى التّوبة والخلاص بقبول الرّب يسوع المسيح في حياتهم.
تفقد الكنيسة ملوحتها عندما تبتعد عن حياة الأمانة والإخلاص لربّها يسوع المسيح.
ورغم حقيقة تعاليم الرّب يسوع عن إمكانية فقدان الكنيسة لملوحتها، فإن ذلك لا ولن يتسبّب في موت الكنيسة أو فنائها. فما يزال في العالم بقيّة تقيّة تعمل بأمانة لمجد الله القدّوس. وما يزال الرّب يسوع يبني كنيسته ويحميها، فهو الّذي وعدنا قائلًا أنا "أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا." (متّى 18:16) فالرّب لا يزال وسيبقى ضابط الكل، وهو الآن يعمل ويعدّ له شعبًا غيورًا لعمل الحق. وهو يقول اليوم لكنيسته الحقيقية: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ... فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ." (يوحنّا 33:16)
أَمسِكْ بيدي
يا ربّ المحبة المبارك،
خلال أيامي المُحصاة في الأرض
أمسك بيدي
في مواقف الجموح والعناد،
في لحظات الإغفال
أمسك بيدي
يدك تطوّق السماوات والأرض والبحر
وفي إشفاق النعمة ثُقبَت يدك من أجلي
فحين تزحم التجارب لتضغط روحي
أمسك بيدي
وحين تعترض خطواتي جحافل الجحيم
أمسك بيدي
لست أخشى العدو ولا الحزن العميق المرير
إن دنوت مني وحفظت نفسي المرتعدة
وحين تشرق الأيام ويبهجني النور
أمسك بيدي
إن قلبي الخدّاع يضلّني عنك
فأنسى سريعًا موتك وحياتك في المجد لأجلي
يا رب النعمة المبارك، الصابر العطوف
أمسك بيدي
ضعيف أنا، أوشك أن أنحرف عنك
لتمسكني ذراعك القوية على الطريق إلى مداه
حتى تنتهي خطوات الاغتراب إلى وطني قريبًا