"تعزية ليست بقليلة" (أعمال 12:20).
كلمة "تعزية" – ومشتقاتها - من الألفاظ التي تميّز الكتاب المقدس بعهديه،
ويجدر بنا أن نتتبّعها في أسفاره المختلفة. ومع أن الكلمة – في لغتنا المتداولة – تقترن غالبًا بما نقدّمه من مواساة لمن فقدوا أعزاءهم، إلا أنها تأتي في الكتاب المقدس بمعنى أكثر اتساعًا وشمولاً: إنها تعني كل ما يهبه لنا الله لتحمُّل ضيقات الحياة وآلامها صابرين راضين شاكرين... بل فرحين أيضًا!
ونحن لا نغالي إذا قلنا إن التعزية هي ضمن الأهداف الرئيسية للأسفار المقدسة: "لأن كل ما سَبَق فكُتب كُتِب لأجل تعليمنا، حتّى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء." (رومية 4:15) لهذا يقيِّم كثير من المؤمنين اجتماعاتهم الروحية بمقدار ما ينالون من تعزية فيها.
وإذا كانت الشدائد والضيقات هي الطابع العام لحياتنا على هذه الأرض، فإننا نحتاج إلى مصدر دائم يمدّنا بالتعزية التي تمكّننا من مواجهة الحياة اليومية بمعنويّات مرتفعة. ولهذا طلب الرب يسوع أن يستقرّ "المعزّي" في دواخلنا، ساكنًا فينا: "وأنا أطلبُ من الآب فيعطيكم معزِّيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحقّ الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكثٌ معكم ويكون فيكم." (يوحنا 16:14-17)
والله – في سخائه المأثور – يعزينا "تعزية ليست بقليلة"، لنستطيع أن نجد متعة رغمًا من همومنا: "عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذّذ نفسي." (مزمور 19:94) وفرحًا في ضيقاتنا: "احسبوه كلَّ فرحٍ يا إخوتي حينما تقعون في تجاربَ متنوِّعة."
ولكن مما يؤسَف له، أن يتّخذ البعض من هذه البركة أداة يهاجموننا بها. ولعلّنا نذكر تلك العبارة الشهيرة: "الدين أفيون الشعوب." وكأنهم يريدون أن يقولوا إن الدين يخدّر الشعوب ليقعدها عن المطالبة بحقوقها... يملؤها بروح التواكل، ويشغلها عن بؤسِ مقيمٍ بنعيمٍ مُرتَقَب... وهكذا يقتل الدين الطموحَ في الإنسان، كما يدّعون.
ومع أننا نستنكر بشدَّةٍ تشبيه الدِّين بالمخدِّرات التي تجرّ الإنسان إلى الإدمان والشرور والويلات، فإنه لا يمكن أن نتجاهل حاجتنا الماسة لما يخفّف عنا آلام الحياة، ويعطينا هدوءً وشجاعة في الأزمات. ولهذا نذكر بالتقدير مساهمة الطب – في حدود إمكانياته – لتحقيق هذا الهدف حتى أصبح ممكنًا إجراء أكبر العمليات الجراحية بلا ألم. وكذلك أمكن مواجهة بعض التوترات العصبية والأزمات النفسية بالمسكنات والمهدّئات تحت إشرافٍ طبّيٍّ دقيق.
وإذا كان العالم قد انساق وراء المخدّرات والإدمان... وإذا كان الطب قد استخدم التخدير أو التسكين – بطرقه الخاصة – في بعض المجالات، فالمؤمن قد وجد تعزيات الله الوفيرة، ما جعله يتحمّل الصعاب ويتجاوزها بسلام، بصورة تثير التعجّب والإعجاب.
قل لي – مثلاً – كيف ينام بطرس في سجنه "بين عسكريين مربوطًا بسلسلتين" (أعمال 6:12)؟ كيف ينام نومًا عميقًا في ليلة إعدامه، كما كان متوقّعًا؟ أما بولس وسيلا فلم يستطيعا النوم من الفرح! كانا يسبّحان الله في منتصف الليل والمسجونون يسمعونهما (أعمال 25:16). هذا كله بعد أن ضربهما حافظ السجن ضربات كثيرة (أعمال 23:16)، وألقاهما في السجن الداخلي، وضبط أرجلهما في المقطرة." (ع 24)
وليس للتعزيات الإلهية آثار جانبية ضارّة كغيرها. فهي لا تلهينا عن مساعينا ولا تثنينا عن تطلّعاتنا، كما يشيعون، ولكنه – على النقيض – تريحنا داخليًّا وترفع روحنا المعنويّة، لنواصل العمل بأكثر إصرار وجدّيّة، لتحقيق أهدافنا. وتعزياتنا لا تأتي من فراغ، ولكنها مبنيّة على مواعيد الله الأكيدة المطمئنة: "إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تُلذَع، واللهيب لا يُحرقك." (إشعياء 2:43) "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم." (متى 28:11)
وحتى عندما يسمح الله – في حكمته – أن تمتدّ بنا الآلام وتشتدّ فإننا نجد في رجاء المجد الأبدي السعيد تعزيتنا الكبرى. ورجاؤنا ليس في الخلاص من الآلام فحسب، ولكن بالأكثر – في فرحتنا بلقاء من أحبّنا وأسلم نفسه لأجلنا. إنها متعتنا القصوى، وهي تعزيتنا الكبرى وسلوتنا في مسيرتنا، فإن "آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا." (رومية 18:8)
أما "سلام الله الذي يفوق كل عقل" (فيلبي 7:4) فإنه يزيد المؤمن اطمئنانًا في العاصفة، وسكينة في الاضطراب. يا له من "مهدّئٍ إلهيٍّ عجيب!" لذلك "عزّوا بعضكم بعضًا بهذا الكلام." (1تسالونيكي 18:4) ففيه "تعزية ليست بقليلة!"