هذه هي الحلقة الأخيرة في دراستنا لرسالة رومية والفصلَين السابع والثامن. هذه الرسالة الذهبية، والتي هي جزء من الوحي الإلهي،
هي في عمق حياة البركات الروحية التي يحضّرها الرب لأولاده. تطرَّقنا فيها سابقًا إلى عدة نقاط هامة هي:
1- مأساة الازدواجية والعبودية
2- الحرية والعتق من الخطية
3- طريق الانتصارات الروحية
ولا بدَّ لنا أن نُنهي تأملاتنا هذه بنقطَتَيْن هامتَيْن هما:
4- آلام الغربة والبريّة
5- البركات والامتيازات البنويّة
4- آلام الغُربة والبريَّة
في وسط هذا العالم سيكون لنا ضيق كما أخبرنا الرب يسوع: "اذكروا الكلام الذي قلته لكم: ليس عبدٌ أعظم من سيده. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم..."(يوحنا 20:15) ومن دون الروح القدس الحيّ فينا لا يمكنُنا أن نتحمَّل آلام الغربة هنا على هذه الأرض. ألم يقل الرسول بولس في هذا المنحى: "فإنِّي أحسِبُ أنَّ آلام الزمان الحاضر لا تُقاسُ بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا... فإنَّنا نعلم أنَّ كلَّ الخليقة تئنُّ وتتمخَّض معًا إلى الآن. وليس هكذا فقط، بل نحن الذين لنا باكورةُ الروح، نحن أنفسُنا أيضًا نئنُّ في أنفسنا، متوقِّعين التبنِّي فداءَ أجسادِنا." (رومية 18:8؛ و22-23) وبعد ذلك يقول: "لكنَّنا في هذه جميعها يعظُم انتصارنا بالذي أحبنا." (37) ترى، عمَّا ذا يتكلم هنا؟ يقول إنَّه في وسط آلام هذا العالم، الروح القدس نفسُه يعينُنا لكي نحتملَ المصائب التي تصيُبنا حتى لنَشعُرَ أحيانًا كمَنْ صُفِع على وجهه فنُصدَم ونخور. كما ونتعرَّض في الجسد إلى التعب والإرهاق والضعف فتداهمُنا الأمراض المتعدّدة كالسرطان بأنواعه وفيروسات غريبة وبائية كما حدث مؤخرًا مع فيروس الكوفيد القاتل. فمَن يعينُنا سوى روحه القدوس الساكن فينا؟ ليس هذا فحسب، بل يعيننا الروح أيضًا في وسط الأحزان والمشقات، وآلام الموت والفراق. وكذا حين نتعرَّض للضيقات والاضطهادات في هذا العالم المليء بالخطية المحيطة بنا بسهولة. ألم يقُلِ الرب يسوع "قد كلَّمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبتُ العالم." (يوحنا 33:16) لهذا لا نقدر أن نستمرّ وحدَنا فنحن بحاجة ماسة يوميًا إلى ملء الروح القدس كيما نغلب وننتصر.
5- البركات والامتيازات البَنوية
في وسط هذه الرسالة كلمات واضحة عن الميراث العظيم الذي أعدَّه الرب لأولاده إذ يقول: "لأنَّ كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله. إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبنّي الذي به نصرخ: "يا أبا الآب". الروح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولادًا فإننا ورثة أيضًا، ورثةُ الله ووارثون مع المسيح." (رومية 14:8-17أ) أجل، فهذا تعبيرٌ واضح عن رغبة الله الآب في منح البركة لأولاده الذين قبِلوا الرب يسوع المسيح مخلّصًا شخصيًا لهم وأعلنوا ربوبيَّته على حياتهم، فيترك لكلِّ هؤلاء ميراثًا عظيمًا لا يقتصر فقط على ميراث الحياة الأبدية فيما بعد، لكنَّه يبدأ من هنا إذ يقول: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح." (أفسس 3:1) ونراه هنا يعبّر عنه في رومية 14:8 الآنِف الذكر بشكل واضح.
في بداية حياتي الجامعية كنا نفاجأ كطلاب بإنسانٍ شحّاذ فقير يجلس على باب الجامعة ليستعطي. وكنا نشفق عليه فنضع في يده بضع ليرات. ولما سألنا عنه تبيَّن لنا أنَّه لم يكن فقيرًا بل كان من عائلةٍ معروفة وثريّة في بيروت. لكنَّ المسكين كان يعاني من حالة مرضية عقلية. لهذا كان يهرب من المنزل مرات عديدة ويلبس ثيابًا رثَّة ويجلس على قارعةِ الطريق ليستعطي. وبالطبع كانت حالته هذه مؤلمة جدًا لعائلته وذَويه.ألا تنطبق هذه الصورة يا ترى على حالة يعيشها بعضٌ من أولاد الله حين ينقادون بالطبيعة القديمة أي بالجسد؟ لذا فمن المؤسِف جدًا أن يعيش هؤلاء على الفُتات الساقط من الموائد ويشتهوا الخرنوب الذي تأكله الخنازير! لقد سفك الربُّ يسوع دمه على الصليب ليمنحك أخي المؤمن حياةً فيّاضة مليئة بالبركات. لذا ينبغي ألَّا تعيش بالفقر الروحي إذا كنت حقًا وُلدت من روح المسيح.
والصورة هنا تتكامل في رومية 8 إذ يتكلم عن الحياة المقادة المملوءة من روح المسيح بالروح القدس. هذه الحياة التي تجلب إليك البركات من ميراثك العظيم. ألا تذكّرك هذه الصورة بقصة الابن الضال الذي قصّها الرب يسوع؟ الابن الضال الذي أضاع كل شيء بعيشه المسرف حتى إنه اشتهى أن يأكل الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله! نجده بعد ذلك يعود إلى نفسه ويقول: "كم من أجيرٍ لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا! أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدَّامك ولست مستحقًا بعدُ أن أُدعى لك ابنًا. اجعلْني كأحدِ أجْراك." وهنا فوجئ هذا الابنُ التائب بمعاملة أبيه له حين لاقاه فرِحًا وفي الحال ألبسه الحلّة الأولى التي تدلّ على ثياب القداسة. ووضع الخاتم في يده، وهو رمز للسلطان الذي يمنحه الله لأولاده باستجابته لصلواتهم من أجل امتداد ملكوته. ومن ثمَّ وضع حذاء في رجليه لكي يسلك في الروح على خُطى السيد. ليس هذا فقط، بل أقام له وليمة عظيمة وذبح له العجل المسمَّن. هذه الصورة هي نداء لكلِّ واحدٍ منا.
ميراثٌ عظيم ينبغي أن نقدّره بالحق والفعل. وهنا أذكر كيف أنَّ جدِّي لأبي بنى بيتًا كبيرًا في أعلى الجبل في منطقة خلّابة من جبال لبنان الشهيرة إذ كان المنزل يطلُّ على أرز الباروك الجميل. بنى البيت لأولاده ولأحفاده من بعدهم كيما يتمتّعوا به كإرثٍ نفيس عريق. لكن وبسبب الحرب الأهلية في لبنان وموت الجيل السابق، لم نستطع نحن الأحفاد المنتشرون في بقاع الأرض أن نتمتَّع بهذا الميراث المتوفّر لنا. والبيت لا يزال قائمًا إلى حدّ الآن دون أن يستفيد منه أحدٌ. وهكذا أضعنا فرصة كبيرة من الاستمتاع بما لنا. أليس هذا ما يحصل أيضًا مع البعض حين يعيشون حياة لا تنقاد من روح الله كالإنسان الطبيعي البعيد عن الرب. لكنَّ الله يدعونا للتوبة والتنكُّر للخطية والانقياد بروحه القدوس. فالامتلاء به هو الامتلاك منه كما ذكرنا مسبقًا. وعندها نعود لنتمتّع بالخيرات والميراث الذي لنا في المسيح. ويمنحنا الروح القدس قوة للانتصار نستطيع من خلالها أن نطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة. كما ويعبّر المؤمن عن هذه الحياة المنتصرة الروحية بممارسته فريضة المعمودية حين يُدفن مع المسيح تحت الماء، ويقوم من بعدها معه بجِدَّة الحياة. وهي شهادة يعلن المؤمن المكرَّس من خلالها بأنه سيحيا للرب كما ورد في (رومية 3:6-4) "أم تجهلون أننا كلَّ من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفنّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جِدَّة الحياة؟"
زراعة قلب جديد لمريض يعاني من قصور في القلب تعتبر إنجازًا طبيًا بارعًا في السنوات الخمسين الأخيرة. لكن حين قام الأطباء بزراعة القلب فشِلوا بادئ ذي بدء بسبب أنَّ الجسم المناعي لدى المريض كان يرفض هذا القلب الجديد. عندها لجأ الأطباء إلى إعطاء المريض أدوية تمنع الجسم من تكوين مناعة القلب الجديد مثل أدوية Tacrolimus وSirolimus. هكذا الروح الذي فيك يا أخي، يمنع الرفض الذي يقوم به (الجسد) ضد الطبيعة الجديدة. كما هو مكتوب: "بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون." (رومية 13:8) والانقياد بالروح يعطي المؤمن أن يتمتّع بميراثه الروحي بحسب مواعيد الله المذكورة في نهاية رومية 8 أدناه:
1- الروح يشهدُ لأرواحنا ويعينُ ضعفاتنا
"الروح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله... وكذلك الروح أيضًا يعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي. ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنَّات لا يُنطق بها." (رومية 16:8 و26) الجسد ضعيف أما الروح فقوي. يضعف الجسد ويهزُل لكنَّ الله أعطانا الأقنوم المبارك الروح القدس الذي انسكب في قلوبنا. فالصورة التي نراها في سمعان القيرواني الذي حمل صليب المسيح ووقف إلى جانبه وكأنَّه الروح القدس المعين. يذكّرنا الروح بمحبة الله التي انسكبت فينا. فلا تحجُب نفسك عن كلمة الله يا صديقي ولا تنسَ أنَّ الرب معك بروحه القدوس يعين ضعفك ويشفع فيك بأنّات لا يُنطق بها ليجعل من الضعف قوة.
2- كل الأشياء تعمَلُ معا لخيرنا
"ونحن نعلم أنَّ كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوّون حسب قصده." (ع28) لا يقول البعض أو الجزء، بل الكل. كان علينا مؤخرًا أن نوقّع ورقة معينة لتجديد الرخصة من أجل استمرار خدمة H.O.M.E في إحدى الدول العربية. فقمنا بتوقيعها دون قراءة محتواها بشكل دقيق. ولم نعلم أنَّ هناك فخًّا منصوبًا لنا فيها. وحين تأخّرتِ الورقة في التصديق عليها من قبل الدوائر هنا في أوستين تكساس، قبل إرسالها إلى الوزارة في واشنطن دي سي، صلّينا بحرارة وطالبْنا الرب بأن يُسرع في إتمام تصديق هذه الورقة. لكن اكتشفنا فيما بعد، أنَّ التأخير كان لصالحنا فعلًا حين لم يتمّ التصديق عليها. وعلمنا أنَّ الرب قد أنقذنا فعلًا من ورطة كبيرة لم نكن على علم بها وقت أداء التوقيع. فشكرنا الرب ولسان حالنا أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله.
3- الله دائمًا معنا
"فماذا نقول لهذا؟ إن كان الله معنا، فمن علينا؟" (31) "عمانوئيل" الله معنا أي حضور الله من خلال المسيح هو معنا وفينا. فعلًا، هذا ما شهد به أثناسيوس في مصر حين سألوه: ألا تخاف أنَّك أصبحت وحدك وكل الناس تقف ضدك؟ فردَّ عليهم وقال: كلّا، أنا لست وحدي لأن الله معي، وأنا والله الأكثرية. وكان أثناسيوس قد رفض إنكار الأساقفة للاهوت المسيح ووقف وقفةً مشرّفة وثابتة.
4- محبة المسيح تحصرُنا
"من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدّة أم ضيق أم اضطهاد... أم خطر أم سيف؟ ... فإنّي متيقن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا." (الأعداد 29-35) نعم، محبة المسيح تحصرنا وتحاصرنا. لا شيءَ يقدر أن يفصلنا عن محبة الرب الفائقة المعرفة. فهو الممسك بيميننا القائل لنا: لا تخف. أنا أعينك. وهنا أذكر مرةً حين انتقلنا إلى تكساس هيوستن، أنَّنا توقفنا بمطار نيو أورلينز من أجل حضور مؤتمر طبي. كانت نايلة ابنتي طفلة تبلغ من العمر سنتين. كنت ممسِكًا بيدها جيدًا، لكن وبسبب الزحمة الفظيعة آنذاك فلتَت يدها مني وضاعت. فارتعبت، وخفت، ورحت أفتش عنها وأنا ألوم نفسي كيف فلتت من يدي. وحين وجدتها ارتدت إليَّ روحي وتنفستُ الصعداء وشعرت أنها أحلى لحظة في حياتي. وقلت: أشكرك يا رب لأنك ممسك بيميني والقائل لا تخف أنا أعينك، وأنت لن تسمح ليدي أن تفلت من يدك.
نعم يا صديقي ويا أخي، تعال إلى هذه الحياة الروحية الفيّاضة الممتلئة بروح الله القدوس واستمتع بمحضر الرب الدائم في حياتك واطلب منه أن يتربّع على عرش قلبك من جديد. وهكذا تتمتّع بكل هذه البركات والامتيازات البنويّة.