هل أنتَ وحدَكَ؟
أمْ أنتَ وحيد؟ أمِ الاثنينِ معًا!
عندَ السابعةِ مساءً، كان هيو ليانغ (Hui-Liang) في المطبخ يتناولُ طعام العشاء المتبقّي من الليلة الماضية
وهو عبارة عن قليلٍ من الأرز وكُراتٍ صغيرة من السمك. في حين كانت عائلة ُشوا (Chua) التي تقطنُ في الشقة إلى جانبه، تتناول طعام العشاء أيضًا وضحكاتُهم ومحادثاتُهم تعلو المكان لتصلَ إلى أذنَي هيو، فتقطعُ عليه حبلَ الصمت المُطْبَق في شقّته إذ كان يعيش وحدَه منذ ُأن ماتت زوجتُه. فلقد تعلَّم أن يعيشَ وحدَه ويتأقلمَ مع الوحدة مع أنَّها خانقة. ومع مرور السنين، اعتادَ عليها فباتتْ وجَعًا عاديًا بالنسبة له. أمَّا الليلة، فمنظرُ طبق الأرز الوحيد والملاعق الخشبية المرافقة له على طاولته، قد حزّ في نفسه جدًا واخترق إلى أعماق قلبه.
لكنَّه، وقبل أن يأوي إلى فراشه في تلك الليلة، قرأ هيو كلمات المزمور المفضَّل لديه، المزمور الثالث والعشرين: "الربُّ راعيَّ فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني إلى مياه الراحة يوردني... أيضًا إذا سرتُ في وادي ظلِّ الموت لا أخاف شرًّا لأنَّك أنت معي." أما العدد الذي لفتَ انتباهَه فهو "لأنك أنت معي." لم تكن هذه الكلمات تُعبِّر عن الراعي الذي يرعى غنمه فحسب، بل تشيرُ أيضًا إلى وجوده الدائم إلى جانبهم ومحبته التي تحصُرهم حتى إنَّها تتابعُهم في أصغر تفاصيل حياتهم وأدقِّها.
قصة هيو هذه ذكَّرتنْي بالعديد من الشخصيات التي اجتازت بمراحل مشابهة عبرَ التاريخ البشري، وبالأخصّ ما نعرفه عنها في الكتاب المقدس. فنقرأ عن موسى مثلًا الذي دُعيَ "كليم الله" أي دائم التكلّم مع الله. هذا كان وحدَه في البريَّة مرافقًا لغنم حميه يثرون وراعيًا لها. ساقها إلى وراء البرية وجاء بها إلى جبل حوريب. وهناك في تلك الخلوةِ وحدَه ظهرَ له ملاكُ الرب بلهيب نار من وسط عليقةٍ، فنظَر وإذا العلّيقة تتوقَّد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق. (خروج 3) وهناك من جبل حوريب انطلقَ موسى فيما بعد لكي ينفِّذ المهمَّة الصعبة التي طلبها منه الله وأرسلَه فيها من أجل إخراج شعبه من مصر.
وحين تقسو الظروف على الإنسان نراه أحيانًا يهربُ إلى حين ليختليَ بنفسه كما فعل إيليَّا النبي. إذ حين علِمَتِ الملكة إيزابل بأنَّه أمرَ بذبْح أنبياء البعل، أرسلت إليه تهدِّدُه. فقام ومضى لأجل نفسه. وأتى إلى بئر سبع. وهناك ترك غلامه وجاء هو إلى البرية وحدَه ليختليَ مع الرب. ومع أنَّه شعرَ باليأس، فطلبَ الموت لنفسه في لحظةِ ضَعف، إلّا أنَّ الله أرسلَ إليه ملاكه ليؤمِّنَ له الطعام والشراب من أجل المهمة القادمة. وفي نهاية الرحلة نقرأُ كيف أنَّ الله تكلَّم إليه بصوتٍ خافتٍ ولطيف إذ كان على باب المغارة حين سألَه: "ما لكَ ههنا يا إيليا؟" فشرحَ له بأنَّه غار غيرةً للرب إله الجنود لأنَّ الشعب ترك وصاياه وعهدَه ونقضوا مذابحه وقتلوا أنبياءه بالسيف. وقال: "فبقيتُ أنا وحدي. وهم يطلبون نفسي ليأخذوها." (1ملوك 19) لكنَّ الرب أرسله في مهمةٍ متابِعة وقال ردًّا على قول إيليا بأنَّه وحده: "أبقيتُ سبعةَ آلاف كلَّ الرُّكَب التي لم تجثُ للبعلِ وكلّ فم لم يقبِّلْه." فوجودُ الله معه عوَّضه عن كل شيء.
شارك أحد الإخوة هذه الكلمات لكاتبها ليونارد ريفين هيل (Leonard Ravenhill) على موقع التواصل الاجتماعي إذ قال: "لن تنجحَ في حياتك الروحية دون الخلوة في العلّيّة. فموسى كان وحده في جبل حوريب، وإيليا النبي قال له الرب بأن ينطلقَ نحو المشرق هناك على ضفة نهر كريث ليقضي وقتًا منفردًا، وحزقيال النبي الذي عاش في السّبي وحيدًا بعيدًا عن وطنه. أما يوحنا الحبيب فلقد نُفي إلى جزيرة بطمس وحده. والرب يسوع المسيح اتَّجه إلى البرية وقضى فيها أربعين يومًا وأربعين ليلة وحدَه قبل أن يلتقيه المجرّب. لكن ماذا عنّا نحن؟ ألا تُرانا نحاول الوصول إلى حياةٍ روحيةٍ ناجحةٍ في اتِّباعنا الطريقَ المختصر؟! مع أنَّ هذا الدرب المختزَل لن يوصلَنَا إلى الهدف؟!"
والآن مهما كانت الظروف التي أبعدَتْك عن الناس من حولك يا صديقي وبغضِّ النظر عن الأسباب التي جعلتْكَ تختلي بنفسك وتعيدُ حساباتك، فلا بدَّ أن تأتي بك لحظاتُ التأمُّل هذه التي فيها تراجع نفسك ومواقفك من جديد، إلى نقطة تحوُّلٍ في داخل قلبك ووجدانك. وهذا بالضبط ما اختبرتُه أنا مؤخّرًا. فليستِ الخلوةُ والوحدةُ مع صعوبتها إلَّا نقطةَ انطلاقةٍ جديدة في حياتك لن تكونَ إلَّا لخيرك. ربما يرسلُكَ الله فيها إلى إرساليةٍ جديدة لم تكن لتَحْلمُ بها وستغيِّر مجرى حياتك تغييرًا جذريًّا. وربما ستؤدي بك إلى طريق فريد في حياة مثمرة ومع أناسٍ آخرين، وستفتح أمامَك آفاقًا جديدة وكذا علاقاتٍ غنيّةً فيها كلُّ الخير والبركة.
ومن فوائد الخلوة وحدك بأنَّها تجعلك تقضي وقتًا تعيدُ من خلاله ذكريات الماضي وكلَّ ما اجتزتَ به من أفراحٍ وأتراح لِتُفاجأ بمعاملاتِ الله وإحساناتِه التي لم تنقطعْ قطُّ عنك لأنَّه لم يتركْك أو يهملْكَ بل رافقَك فيها في حلوها ومُرِّها. ليس هذا فحسب بل ستجد في وجودك وحدَك في محضر الرب كلَّ التعزية والسِّلوان والرعاية والعناية، وهذه لا بدَّ أن تشدِّدَك وتقوّيك وتبعثَ فيك الزخم والاندفاع أكثرَ من أيِّ وقت مضى. وفي نهاية المطاف لن تشعر بأنَّك وحيدٌ لأن َّمحبة الله حاصرَتْك وتحصُرك. إذن في وحدَتِنا وخلوتنا، من الطبيعي أن نشعر أحيانًا بأنَّنا وحيدون كما شعر أنبياءُ ورجال الله في القديم، لكنَّها كانت فتَراتٍ لا بدَّ منها لكي ينموا ويتطوّروا ويتقوُّوا.
نعم فالطريقُ المختصَر لن يوصلنا إلى الدّرب المتقدِّم في حياة روحية ناجحة ونضوج أرقى، لأنَّه لا بدَّ أن نجتازَ في كلِّ ما هو مطلوب ولائق بهذه الحياة المنشودة. أما كلمات الترنيمة التي ما زلتُ أردِّدها من تلك الخلوة المنفردة في العلّيَّة وقد رنَّمها مؤخَّرًا فريق الترنيم في الكنيسة فهي بعنوان: يا نفسي اهدئي...
اهدئي يا نفسي، فالربُّ إلى جانبك، احتمِلي صليبَ الألم والحزن، ودعيهِ يتصرَّف ويوفِّر لك ما تحتاجين. ففي كلِّ مرحلةِ تغيير هو يبقى أمينًا. اهدئي يا نفسي فإلهُكِ يهتمُّ بأمرك، سيقودُكِ في المستقبل كما فعلَ في الماضي. هو رجاؤكِ ومحطُّ ثقتِك. فلا تدَعي شيئًا يُزعزعُكِ. وكلُّ ما يبدو لكِ الآن غامضًا، سيغدو واضحًا متألِّقًا في الأخير. اهدئي يا نفسي فالرياحُ والأمواج تعرفانِ صوتَه وتطيعانِهِ مُذ كانَ على أرضنا هنا.
القرار: بكَ وحدك أجدُ رجائي وأمَلي،
فيكَ وحَدك أثق، فلن تدعَني أفلِتُ أو أُخزى. لذا أضعُ حياتي فقطْ بين يديكَ الحانيتينِ
فاهدئي يا نفسي.
اهدئي يا نفسي فالساعةُ الآنَ تقترب وتدنو، عندما سنكون مع الرب إلى الأبد. والفراق والخوف سينتفيانِ وكذا الحزن سيُنسى، وسرعانَ ما تعود أفراحُ المحبة النقية. اهدئي يا نفسي فأيامُ الدموع ستنقضي، وسنلتقي أخيرًا مع الحبيب وسنتمتَّع بالسلامة والبركة.
Be Still My Soul - Kari Jobe
إنَّ هذه المحادثة التي تجري بين الإنسان المخلوق وفي محضر الله الخالق لتُعبِّر عن عطش قلب الإنسان في كل الظروف والأحوال إلى علاقة حميمة تملأ كلَّ كيانه ووجدانه. ويصف هذه العلاقة الوحي المقدس ليقول: "... ولذَّاتي مع بني آدم." (أمثال 31:8) وهكذا جاء يسوع المسيح في جسم بشريته إلى هذه الأرض ليكون قريبًا منّا. وكما عبّرَ أحدهم إذ قال: "لقد أظهر سروره في بني آدم في شفقته على البؤساء، على الأطفال، على المتعبين. فشفى المرضى وأحيا الموتى. وكان التائبون عن الخطية بالنسبة له أفضل مَن على الأرض. كان يشتهي أن يذهب إلى منازلٍ مِن على شاكلة متّى وزكّا العشّارَيْن، كما كان يجد راحته في بيت مرثا ومريم. ومع كل ذلك كان يذهب ويختلي مع الله الآب إذ يترك التلاميذ والجموع، ويذهب "إلى موضع خلاء منفردًا." (متى 13:14)
إذن، عندما تكون في خُلوة وحدك، أو حين تشعر بالوحدة، أكنتَ في المطبخ تتناولُ طعام العشاء مثل هيو، أو كنتَ تجلس على مقعدٍ في إحدى الحافلات راجعًا إلى بيتك بعد عناء عمل النهار، أو حتى كنت في السوبرماركت محاطًا بعجيج المتسوِّقين وضجيجهم، فلا بدَّ أن تدركَ يا أخي أنَّ عيني الراعي الصالح هما نحوك دائمًا، وأنَّك تستطيع أن تقول: "لأنك أنت معي." وهذا يكفي. أوَلَم يقلْ إشعياء النبي هذه الكلمات أيضًا:
"لأنه هكذا قال السيد الرب قدّوس إسرائيل: "بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكونُ قوّتُكم." (إشعياء 15:30)