لقد كانت ليلةَ القبض على يسوع، وبدء محاكمته، محكًّا لاختبار نوايا الناس الذين تبعوه وغاياتهم،
إذ كشفت حقيقة مواقف الناس من شخصه. هناك ثلاثة مواقف كشفتها حادثة محاكمة يسوع هي:
موقف عامّة الناس
لقد تعدّدت آراء الناس في شخص يسوع، ومع ذلك تبعته جماهير غفيرة منذ بداية خدمته، وحتى نهايتها في أسبوع الآلام. معظم الناس ساروا وراءه لامتلاكه كاريزما قويّة، وسلطانًا فريدًا في التعليم، وقدرةً على صنع المعجزات الخارقة، وتسديد كافة احتياجاتهم من شفاء مرضى، وإخراج أرواح شريرة، وإكثار الخبز والسمك لتوفير الطعام لهم، إلى إقامة أمواتهم. كانت أولويّة يسوع في خدمته هي توبتهم ودخولهم الملكوت. لكن معظمهم اكتفى بالاستفادة من بركات يسوع الزمنيّة، ولم يتبعوه بناء على إيمان حقيقيّ. بل كانت غاياتهم، وطموحاتهم تتعارض مع كرازته بملكوتٍ روحيّ يتمّ دخوله بالتوبة، ويقوم على الخدمة وإنكار الذات، وليس على السلطة السياسيّة، والقوّة العسكريّة. الإيمان المسيحي، إيمانٌ فرديٌّ راسخ، وليس جماهيريًّا مبنيًّا على مشاعر متقلّبة مثل أمواج البحر. فعندما دقّت ساعة القرار، انكشفت مواقف الجماهير على حقيقتها، فنراهم يحتفلون بدخول يسوع الظافر إلى أورشليم، ويصرخون: "أوصنّا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. أوصنّا في الأعالي." (متى 9:21) وبعد بضعة أيام، نراهم يطلبون الموت ليسوع. وعندما خيّرهم بيلاطس بين إطلاق سراح يسوع أو باراباس: "فصرخوا بجملتهم قائلين: "خذ هذا! وأطلِقْ لنا باراباس!" ... فناداهم أيضًا بيلاطس وهو يريد أن يطلق يسوع، فصرخوا قائلين: اصْلِبْهُ! اصْلِبْهُ!" (لوقا 18:23-22)
موقف رجال الدين، وموقف رجال السياسة
يُلخِّص المزمور 2:2 موقف قادة الشعب من المسيح بقوله: "قامَ ملوكُ الأرضِ، وتآمر الرؤساءُ معًا على الربِّ وعلى مسيحِه، قائلينَ: [لنقطَعْ قيودَهما، وَلْنطْرَحْ عنّا رُبُطَهما.]" وقد تآمر فعليًّا رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب مع الملك هيرودس، والوالي الروماني بيلاطس على قتل يسوع. وقد اجتمعت أيضًا في تلك المناسبة كل المتناقضات، فرغم احتكام اليهود لناموس موسى، وهو أسمى ناموس أخلاقي عادل يمثّل طبيعة الله، حكموا بالموت ظلمًا على شخصٍ بريءٍ، وكذلك الرومان المعروف عنهم تمسّكهم الشديد بالقانون والعدالة في إصدار الأحكام، حكموا بصلب يسوع ظلمًا مخالفين قوانينهم العادلة إذ أعدموا شخصًا بريئًا. بالنسبة لبيلاطس، يسجِّل لنا البشير يوحنا أطول رواية لمجريات محاكمة يسوع في قصر بيلاطس الوالي الروماني. في يوحنا 38:18 يصرّح بيلاطس لليهود قائلًا: "أنا لست أجِدُ فيه علَّةً واحدةً." ثم يؤكّد ذلك ثانية في يوحنا 4:19 بقوله: "ها أنا أُخرجُه إليكم لتعلموا أني لست أجدُ فيه عِلّةً واحدة". وبعد صراخهم "اصلِبْهُ! اصلِبْهُ!" يصرِّح بيلاطس مرة ثالثة قائلًا: "خذوه أنتم واصلبوه، لأني لست أجد فيه علَّة." (يوحنا 6:19) يخبرنا البشير لوقا أن بيلاطس بعد يأسه من محاولات إطلاق يسوع: "أخذ ماءً وغسل يدَيْهِ قُدَّامَ الجمعِ قائلًا: [إنّي بريءٌ من دمِ هذا البارّ.]" (متى 24:27) فكيف يغسل يديه من دم يسوع، ثم يسلّمه ليصلب؟ نجد هنا أن بيلاطس هو مثال السياسي البراغماتي الذي يحافظ على سلطته وكرسيّ حكمه، وقد أثبت موقفه هذا أنّه جبان، يعرف الحقّ، ولكنه لا يجرؤ على فعله.
موقف تلاميذ المسيح
وسط تلك الجموع الكثيرة التي تبعت يسوع، كانت هناك جماعة صغيرة آمنت به بجدّيّة وتبعته بإخلاص، على رأسها، الرسل الإثنا عشر، وزكريا وأليصابات، وحنة بنت فنوئيل، وسمعان الشيخ، والرعاة، والمجوس، والمريمات، وغيرهم. وعلى الرغم من كلِّ ضعفاتهم وعيوبهم، فقد اتّخذوا قرارًا جريئًا، وتركوا كلَّ شيء، وتبعوا شخصًا رفضَهُ قادةُ المجتمع واضطهدوه. ولكن كغيرهم من الجماهير لم يكونوا يفهمون طبيعة المجيء الأوّل للمسيح، أنه لفداء البشريّة وتأسيس ملكوت روحيّ ليس من هذا العالم، فرغم إخبار يسوع لهم سلفًا، أنه سوف يُسَلَّم إلى أيدي أعدائه، ويُصلَب وفي اليوم الثالث يقوم، كانوا يرون أمرًا واحدًا فقط هو الملكوت الزمني. وعند إلقاء القبض على يسوع، هربوا جميعًا، حيث خابت آمالهم، وانهار إيمانهم بيسوع، وعثروا بالصليب. لكن يسوع بعد قيامته عمل على معالجة ضعف إيمانهم، وصرف أربعين يومًا يريهم نفسه حيًّا ببراهين كثيرة، وبعد حلول الروح القدس عليهم في يوم الخمسين، انطلقوا من العلِّيّة، يكرزون بالمسيح المُقام، فقلبوا العالم رأسًا على عقب، وغيّروا مجرى التاريخ البشريّ.