أخبرني البائع الذي في حيّنا بأنَّ القوافل التي تمرُّ من هنا، والآتية من بلادٍ بعيدة، هي مصدرُ هذا العطر.
وهو فوَّاح ومميَّز ومصدرُه الهند. وقال لي بأنَّ رائحتَه قويّةٌ ويُسمّى النّاردين. ويُستخلصُ من نباتٍ صغيرِ الحجم يَنبتُ هناكَ في أعالي جبالِ الهيملايا، أي في الصَّقيع والبرْد. لقد استعملَه الهنود في الأزمنةِ القديمة طيْبًا لأنَّه طيّبُ الرائحة. لاحظي يا مريم – تابعَ البائعُ كلامَه – إنَّه ليس عِطْرًا فحسبْ، بل أيضًا استخدموه دواءً ناجِعًا لبعضِ الأمراض، ومفيدًا لِجسمِ الفرْد. لذا فهُم يصدِّرونه إلى شرقنا هنا حتى يتولَّى التجّارُ توزيعه على المحلّات في هذا البلد.
قلتُ له باستغراب: وكم يبلغُ ثمنُ القارورةِ الواحدة منه يا ترى؟ قال: "إنَّه ثمينٌ جدًّا. فالناردين فريدٌ وهو غالٍ جدًّا، لذا فهو يُستعمل في مسْحِ الملوك. وإذا كنتِ بالحقِّ تريدين شراءَ القارورة هذه فسوفَ أبيعُها لكِ بمبلغ ثلاثمئةِ دينار، وهذا السعرُ لن تجِديهِ عندَ أيِّ بائعٍ آخر. أنصحكِ بأن تشتري هذه القارورة وتحتفظي بها إلى يوم السَّعد والهناء، يوم فرَحِك، أو لأيَّة مناسبةٍ سعيدة غاليةٍ على قلبك." وهنا ما كان منِّي إلَّا أنْ فتحتُ صُرَّةَ نقودي وأخرجتُ المبلغَ المطلوب. فلقد أحببتُ هذا العطرَ النادرَ الوجود. وما أن ودّعتُ البائع مشكورًا حتى توجَّهت بسرعة إلى غرفتي في بيتنا في بيت عنيا، ومنها إلى خزانتي وفتحتُ الدُّرج الذي أخبِّئ فيه أشيائيَ الثمينة من الحِلى الذهبية، ولففْتُ القارورةَ بكلِّ حذَرٍ وتؤدة ووضعتُها هناكَ بينَ أغراضي. وقلتُ في نفسي لا بدَّ أن يأتيَ اليوم الذي سأتدهّنُ بهذا العطْر في مناسبةٍ هامّة وخاصة تَعني ليَ الكثير.
نعم يا إخوتي، ولم أدْرِ عندَها بأنَّ هذه المناسبة ستكون في آخِر أيَّام المعلّمِ الصالح معَنا وبيننا، السيد يسوع الصديق الصّدوق وصانعِ العجائب العِظام، وعلى رأسِها كانتْ إقامتَه لأخي لعازر الذي مات حينما كان هو بعيدًا عن قريتنا الصغيرة. حزنتُ وأختي مرثا عليه جدًّا فهو أخونا الوحيد. لكنَّ يسوع ذا القلبِ النفوع لم يتركنا، بل حين وصلَ إلينا بعدَ أيام أربعة بدتْ لنا شهورًا طويلة، عبَر إلينا وأعانَنا على مَصابِنا الأليم. وعند القبر بكى يسوع لبكائنا. ورفع صلاة حرّى إلى الآب في السماء أمام حشدٍ من الجمع المبهور. ومن ثَمَّ التفتَ إلى حيث كانَ الجسدُ مدفونًا في القبر، وصرخَ بصوتٍ عظيم وسلطانٍ عميم قائلًا: "لعازر هلمَّ خارجًا." ويا إخوتي، شاهدنا في تلك اللحظة أخي الميت الملفوف بالأكفان قد انتصبَ قائمًا أمام أعيننا بعجيبةٍ إلهية ليس لها مثيل. كانَ المنظرُ مرعِبًا بعضَ الشيء، لكنَّه مفرِحٌ ومدهشٌ في آنٍ واحد. لقد أقام يسوعُنا العجيب أخانا الحبيب من الموت الرَّهيب؛ لا بل خلقَه من جديد بعد أن أنتنَ جسدُهُ وبدأ بالتحلُّل. أجل، هذا هو يسوعيَ المميَّز والفريد الذي اعتدتُ على زياراته المتكرّرة لنا إذ كان يميلُ إلينا كلَّما جاءَ إلى بيت عنيا. واعتدتُ أنا أيضًا على الجلوسِ عندَ قدميه والاستماع إلى كلامه الحكيم وصوتهِ الحنون والمليء دفئًا وحبًّا للإنسان كلِّ إنسان.
واليوم جاء يسوعُ إلى بيتنا زائرًا من جديد، ولكنَّ المناسبة مختلفةٌ عن سابقاتها. فبعد أيام قليلة سنتذكَّر عيدَ الفصح. وها هو يسوعُ معنا ضيفُ الشرف لأنَّه وحدَه السيِّد والمعلِّم لذا يليق به كلُ تكريمٍ وتبجيلٍ وتقدير. وهنا أيضًا اجتمع الأصدقاءُ والأقرباءُ والجيران لتناول الطعام معنا احتفالًا بالحياة الجديدة التي منحَها لأخينا لعازر. نعم، فقلبي يفيضُ بالشكر لا بل بالشُّكران والامتنان الكبيرَيْن لِما فعلَهُ معنا وما تعلَّمتُ منه على مرِّ السنوات الثلاث والنصف هذه. إذ أنصتُّ إليه مرارًا وتكرارًا وهو يتكلّم كلماتٍ تبعثُ النور والحبّ والفرح والسلام في القلب. بالحقّ لقد فاقَ البشر أجمعين، وسَما فوقَهم لأنَّه مُعطي الحياة، لا بل هو الحياةُ نفسُها وهو مليكي أنا وسيِّدي.
وهنا قررت بيني وبين نفسي بأنَّ الساعة قد حانت الآن. أجل، الآن هو الوقت المناسب يا مريم... وراح حدْسي ينبئني بأنَّه لن يبقى معنا المعلّم إلَّا لأيّامٍ قلائل. فقلت في سرِّي: لِمَ لا آتي بالناردين وأسكبُه على قدميه. فهل هناك مَن هو أفضلُ وأكثرُ قدْرًا وحبًّا من شخصه؟ كلّا لا يوجد. لكن، مهلًا يا مريم، قال صوتٌ آخَر في داخلي. هل يُعقلُ أن تفعلي هذا أمامَ جمهورٍ من الناس؟ وماذا سيقولون عنكِ؟ ثمَّ إنَّ هذا العمل مخصَّصٌ فقط لربِّ البيت وحده أو للخادم. تذكَّري أيضًا أنّكِ امرأة ولا يمكنكِ أن تُقْدِمي على هكذا عمل! وماذا عن التقاليد والعادات! أتخرجين عنها؟ نعم، أجبت الصوت وبكلّ حزم. ولا يهمُّني ماذا سيقولُ الناس عني. فأنا مزمعة أن أُكرِمَ سيّدي ومعلّمي يسوع الذي آمنتُ أنَّه هو بالحقِّ القيامةُ والحياةُ، وأنَّه من عندِ الله خرَج. الشكرُ يدغدغُ أوتار قلبي، ولا أستطيع أن أتراجع عن قراري هذا.
وخلالَ دقائق معدودة، وبسرعة البرق دخلتُ إلى غرفتي وتناولتُ قارورةَ الناردين، وخبَّأتها تحتَ عَباءتي. وتوجَّهتُ نحوه ودقّاتُ قلبي تتسارعُ، وركعتُ على ركبتيَّ، وسكبتُ القارورةَ بأكملِها على قدَمَي المعلّم، ففاحَ عطرُ الناردين، وملأ أرجاءَ البيتِ كلّه. ثم انحنيت إلى أسفل، وبدأتُ أمسحُ رجليه بشعري الطويل المنسدِل على كتفيّ. لقد وضعت في قلبي وفكري أن أكرمَه وأقدّرَه وأقدِّم له شكريَ العميم لأنَّه يستحقّ كلَّ تبجيلٍ وتهليلٍ وعبادة ٍحقيقيّة نابعة من هناك من أعماق الوجدان. وبينما أنا منشغلةٌ في تكريمه، إذا بيهوذا أحد التلاميذ راح يتمتمُ بكلماتٍ تدلُّ على اعتراضه على ما فعلتُ واتَّهمني بالإسراف. وكان لسانُ حاله بأنَّه كان يمكن لهذا العطرِ الثمين أن يُباع بمبلغٍ كبيرٍ ويُعطى للفقراء. لكنَّني لم أكترثْ لكلامهِ، ولم أسمحُ له بأنْ يوقفنَي عن لحظةِ الهيام والإكرام هذه. أما يسوعُ، وهو عارفُ القلوب، فقد فاهَ بكلماتِ اخترقت إلى أعماق قلبي إذ قال: "اتركوها! إنها ليومِ تكفيني قد حفِظَتْه، لأنَّ الفقراءَ معكم في كلِّ حين، وأما أنا فلست معكم في كلِّ حين." (يوحنا 7:12-8) ها قد كفَّنت السيّد والمعلّم مُسبقًا. قلت في داخلي، بالحقّ لقد كانت فرصتي الذهبيّة ولم أضيّعها. شكرًا لك سيّدي. ثم تبع كلامه ذلك ليعلن ويقول: "الحقّ أقول لكم حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كلّ العالم، يُخبَر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها." (متى 13:26، ومرقس 9:14) عندها انسكبت دموعي مدرارًا على خدَّيَّ من كثرة الفرح، وأحسستُ بحبّه الشافي والكافي يتدفّق إلى أعماقي، وعُدْتُ لأُسبى به من جديد. فعلًا أحبُّك ربّي يسوع من كلِّ قلبي ونفسي وفكري وقدرتي فأنتَ الحياة كل الحياة.
أجل، لقد سكبْتُ أغلى ما عندي على قدميه وأكرمته بفعلي هذا وها هو الآن يردُّ مئةَ ضعف من إكرامه لي حين أعلنَ بأنَّ العالمَ بأسره سيُخبَرُ بما فعلتُه لطالما كُرِزَ بالإنجيل. وها إنّهم سيذكرونني في جلْستي هذه عندَ قدميه، وسيشتمُّون رائحةَ النَّاردين العبِقة وهي تفوح في كلِّ مرةٍ يقرأون قصّتي هذه. أشكر هذه النعمة الغنيّة التي خصَّصْتني بها فعلًا من خلال كلماتك هذه. وها أنا أقدّم قلبي لك يا يسوع لكي تسكنَ فيه إلى الأبد. فأنتَ مليكي وليسَ أحدٌ غيرَك. وفاه لساني بقلم كاتبٍ ماهر وسجل بكلماتٍ معبّرة كهذه:
ها آتي بطيبي فوقَ رأسِك،
هَبْني الآنَ أعرفْ حقَّ قدْرِكَ
عِوَضًا عن شَوكي في إكليلِكَ،
واتْكئَنَّ رأسي على صدرِكَ
إذ كسرْتَ قلبَكَ من أجلي أنا،
ها قارورةَ الطِّيبِ أكسرُها هنا
عندَ قدميكَ وأدهَنْهُما،
حيثُ راحتي لا ولا عناءْ
لا يَكُنْ في قلبي شريكٌ لكَ،
لكَ كلُّ حبّي لكَ وحدَك
ولْينكسِرْ قلبي ليَشبَعْ قلبُك،
وكلُّ شهوتي في مَجدِكَ
دَعْني أُكرِمْ اسمَك وأَرفعْهُ الآن،
لئلَّا تمضي الفرصةْ وينتهي الزمان
فمريم وحدَها قد فازتْ بالنيشان
وطِيبُ المريماتِ فاتَهُ الأوانْ
فعلًا، "ما دامَ الملكُ في مجلسِهِ أفَاحَ نارديني رائحتَه." (نشيد الأنشاد 12:1)
- مريم من بيت عنيا