للصداقة أهمية كبرى في حياة الإنسان من حيث تأثيرها، فإما أن تؤثِّر عليه سلبًا أو إيجابًا، وهذا يتوقّف على
نوع الصداقة وشخصية الصديق، لهذا يحذّرنا الكتاب المقدس من المعاشرات الرديئة، لأن "المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيّدة."
كان للمسيح أثناء حياته على الأرض أصدقاء كثيرين جدًا وقد أحبّوه وآمنوا به وبرسالته وكانوا من اتباعه، منهم: التلاميذ الاثني عشر، ويوسف الرامي الذي قام بعملية تكفين يسوع ودفنه في قبره الجديد، والنسوة اللواتي كنّ يخدمنه بأموالهنّ، والعائلة المقرّبة جدًّا له والذي كان يحبّها جدًّا - عائلة لعازر الذي أقامه من الموت وأختيه مريم ومرثا.
يذكر الكتاب عدة مرات عن محبة يسوع للعازر. فلما كان مريضًا أرسلت الأختان الى يسوع قائلتين: "يا سيد، هوذا الذي تحبه مريض." (يوحنا 3:11)، ويقول أيضًا: "وكان يسوع يحبّ مرثا وأختها ولعازر." (يوحنا 5:11) وقال يسوع لتلاميذه: "لعازر حبيبنا قد نام. لكني أذهب لأوقظه." (11:11) ولما بكى يسوع قال اليهود: "انظروا كيف كان يحبّه!" (36:11)
زار يسوع بيت لعازر وأختيه ثلاث مرات: المرة الأولى عندما استقبلته مرثا في بيتها وكانت مرتبكة ومضطربة في أعمال كثيرة، والمرة الثانية في يوحنا 11 عندما أقام لعازر من الموت، والمرة الثالثة عندما صنعوا له عشاء وكان لعازر أحد المتَّكئين مع يسوع وكانت مرثا تخدم ومريم كسرت قارورة الطيب ودهنت قدميه ومسحتهما بشعرها (أصحاح 12).
ما أجمل أن يكون يسوع في بيوتنا ويجد راحته فيها - وتكون عائلاتنا كلها له!
ورد في إنجيل لوقا 38:10-39 و42 أن يسوع وتلاميذه بينما "... هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ امرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. وَكَانَتْ لِهَذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلامهُ... فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا."
جلست عند قدمَي المعلم كتلميذه، مثلما كان التلاميذ يجلسون عند أقدام المعلّمين... وكما جلس بولس عند قدمَيْ غمالائيل معلّم الناموس، دليلًا على الخضوع والطاعة والانتباه لما يقوله المعلم ورغبة في التعلّم والإرشاد، هكذا جلست مريم خاضعة لتسمع ما يقوله المعلم الصالح لها. ماذا تعلمت؟
1- تعلَّمَت أهمية الأولويّات في الحياة - الطعام الروحي قبل الطعام الجسدي
أما مرثا فارتأتْ أن تكرم يسوع بطريقتها الخاصة بالطعام الجسدي - وإن كان هذا مهمًّا لكن الأهمّ هو الطعام الروحي قبل الجسدي؛ وهذا سبّب لها ضغوطًا وارتباكًا واضطرابًا، فلمْ تتمالك أعصابها، فقالت في عصبيّة: "يَا رَبُّ، أما تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!" (ع 40) بكلامها هذا لامت المسيح وانتقدت أختها! فالابتعاد عن قدمَي المسيح قد يعرّضنا للغضب، والعصبية، والوقوع في الأخطاء والخطية نحو الله والآخرين، ولكن التواجد في محضره يجنّبنا مثل هذه الأخطاء. فمن المهم جدًّا أن نتعلّم هذا الدرس ليس من مريم بل من شخص الرب يسوع الذي قيل عنه في مرقس 35:1 "وَفِي الصُّبْحِ باكرًا جِدًّا قَام وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ."
ابدأْ يومَك بالخلوة مع الرب قبل أن تخرج إلى العمل أو إلى الخدمة... فالصلاة سلاحٌ لحمايتك من ضربات إبليس.
2– تعلَّمَت الصمت وضبط النفس
وبالرغم من حالة الارتباك والعصبية التي كانت مرثا فيها، نلاحظ أن مريم كانت جالسة عند قدمَي يسوع تسمع بكلّ هدوء. لم تتكلّم كلمة واحدة، لم تغضب من أختها، ولم تردّ عليها، لكنها تركت يسوع يردّ عليها.
إن الابتعاد عن قدمَي المسيح ووجودنا في "مطبخ" أمور هذا العالم، يعرِّضنا للغضب والعصبيّة والوقوع في الأخطاء والخطية نحو الله والآخرين. أما وجودنا في محضره يحكِّمنا ويحصِّننا من الخطأ والتفوّه بكلام ليس في محلِّه، بل يملأنا بالسلام والهدوء والحكمة.
3– تعلَّمَت عن الاختيار الأعظم
"فَأَجَابَ يَسُوعُ وقال لها: «مَرْثَا، مَرْثَا! أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أمورٍ كَثِيرَةٍ، وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا.]" في هذا القول وجّه يسوع إلى مرثا أمرين: أولاً، إن التركيز على الأمور المادية دون الروحية يسبّب الاضطراب والارتباك والقلق. ثانيًا، يلفت نظرها إلى الأمر الأهم وهو النصيب الصالح الذي اختارته مريم. فكلّما أكثرنا المكوث في محضر الله تكون قراراتنا حسب مشيئة الله وفي مسارها الصحيح.
4– تعلََّمَت أن تبكي عند قدمَي المسيح في آلامها
بعد موت لعازر ولقاء كلّ من مرثا ومريم بالرب يسوع، نجد أنه هناك فرق واضح بين اللقاءين، "فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاَقَتْهُ، وَأما مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي الْبَيْتِ. فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أخي!]" أما مريم فيقول عنها الكتاب: "فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي!" لقد اندفعت مرثا في الحديث مع يسوع الذي أكّد لها أنّه هو القيامة والحياة وأن أخاها سيقوم. أما مريم التي تعلّمت السجود، لما رأته خرّت باكية عند رجليه قائلة: "لو كنت ههنا لم يمت أخي." لقد تعلّمت أن تأتي بآلامها ودموعها عند قدمَي يسوع. لأنه عند قدمَيه يهرب الحزن والتنهّد، وهو وحده الذي يستطيع أن يخفّف آلامنا ويمسح دموعنا لأننا به نحيا ونتحرّك ونوجد.
5– تعلَّمت أن تشكر لا بالكلام بل بالعمل
بينما كان يسوع متّكئًا في حفل العشاء مع لعازر، ومرثا تخدم كالمعتاد، لكن في هذه المرة بدون تذمّر أو شكوى، يقول الكتاب: "فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَنًا مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَأمتَلَأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ." كسرت قارورة الطيب التي يُقدَّر ثمنها بأجر عاملٍ لكل السنة، وكانت تحتفظ به الفتاة ليوم زفافها. لكن مريم التي أحبّت يسوع قدّمت أغلى ما عندها له، تعبيرًا عمليًّا عن حبّها وشكرها له، كما يقول الكتاب: "يَا أَوْلاَدِي، لاَ نُحِبَّ بِالْكَلام وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ! وَبِهَذَا نَعْرِفُ أَنَّنَا مِنَ الْحَقِّ وَنُسَكِّنُ قُلُوبَنَا قُدَّامهُ." (1يوحنا 18:3-19)