نواصل حديثنا حول اختيار الأمم في عصر الآباء، وقد تناولنا من قبل إبراهيم وملكي صادق. في هذا العدد نتناول هاجر وإسمعيل، ثم أليعازر الدمشقي.
هاجر وإسمعيل
يميل معظمنا في الحديث بطريقة سلبية عن هاجر وإسمعيل. وعلى غير أساس ينفي البعض عنهما الإيمان، باعتبار أنهما لم يُذكرا مع أبطال الإيمان في عبرانيين 11.
الرد على هذا أنه لم يُذكر في عبرانيين 11 جميع الأتقياء والمؤمنين في العهد القديم. هناك قائمة طويلة من المؤمنين لم ترد في عبرانيين 11. ويرى البعض فيما ذكره الرسول بولس في غلاطية 21:4-31) إشارة إلى رفض الله لهاجر وإسمعيل، وهذا غير صحيح بالمرة. كان الرسول بولس يتحدّث عن قضية الحرية في المسيح واستشهد بقصة إبراهيم، وسارة، وإسحق، وهاجر، وإسمعيل كرمز يشرح بهم هذه الحقيقة اللاهوتية الهامة. لم يكن هذا انتقاصًا من هاجر وإسمعيل على الإطلاق.
إن السؤال الذي يشغلنا هنا: هل كان الله محبًا لهاجر وإسمعيل؟ وهل ارتبطت هاجر ومعها ابنها إسمعيل بعلاقة مع الله؟ وهل عرفت هاجر يهوه وهي الأممية الأصل [مصرية]؟
في البداية نؤكد أن معاملات العهد الإلهي كانت تسير من إبراهيم إلى إسحق إلى يعقوب، إلخ... إلا أن العناية الإلهية لم تتخلَّ عن هاجر وإسمعيل، ونحن نعتبرهما من العلامات المضيئة لنعمة الله في عصر الآباء، والأدلة على هذا كثيرة:
عاشت هاجر كجارية لسارة في بيت إبراهيم. بعد عشر سنوات تقريبًا تزوج إبراهيم منها وأنجب إسمعيل، وأحبّه إبراهيم حتى قال يومًا عنه للرب، وكأنه مكتف به: «لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!» (تكوين 18:17)
من المحتمل جدًا أن إبراهيم الذي كان يبني مذبحًا للرب، ويدعو باسم الرب، أنه علّم أهل بيته – بمن فيهم هاجر وإسمعيل – عن هذا الإله العظيم.
بعد أن حبلت هاجر «صَغُرَتْ مولاتها في عينَيْها»، وكانت النتيجة أن «هربتْ مِنْ وجْهِها» (4:16-6). وجدها ملاك الرب في البرية وقال لها: «ارْجِعِي إِلَى مَوْلاَتِكِ وَاخْضَعِي تَحْتَ يَدَيْهَا». ثم باركها ملاك الرب، الذي هو الله نفسه قائلًا: «تَكْثِيرًا أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلاَ يُعَدُّ مِنَ الْكَثْرَةِ».
ربما كانت تجول مخاوف كثيرة لدى هاجر بسبب حملها ونسلها، لكن يأتي الرب إليها ويطمئنها بأنها ستلد ابنًا، وهو الذي أعطاه اسمَ "إسمعيل" قائلًا: "أَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ". هذا يعني أنها تذلّلت وصلّت للربّ، والربّ سمع لها. إنها دعت اسم الرب الذي تكلّم معها: «أنْتَ إِيلُ رُئِي». لأَنَّهَا قَالَتْ: «أَههُنَا أَيْضًا رَأَيْتُ بَعْدَ رُؤْيَةٍ؟» (تكوين 7:16-14)
عندما أعطى الرب لإبراهيم الختان كعلامة للعهد بينهما، كان إسمعيل من أوائل من خُتِنوا مع إبراهيم، ويُظهر هذا محبّة إبراهيم له، وكان إسمعيل بهذا واحدًا من أبناء العهد.
وُلد إسحق وكبر وصنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطامه، وكان إسمعيل وقتها قد بلغ السادسة عشر تقريبًا من عمره، وبدأ يمزح (أو يلاحق إسحق). لم تحتمل سارة هذا وطلبت من إبراهيم أن يطرد هاجر وإسمعيل، ولم يقبل إبراهيم هذا الكلام في البداية، حتى أمره الرب أن يفعل ما تقوله سارة. ثم جدّد الرب وعده عن إسحق: "لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ"، وفي نفس الوقت قدّم وعده عن إسمعيل: "َابْنُ الْجَارِيَةِ أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ." (تكوين 12:21-13) لاحظ كيف يتعهّد الله إسمعيل؟
خرجت هاجر وإسمعيل ومعهما بعض الطعام وقربة ماء، وتاهت في برية بئر سبع. بالطبع فرغا من الطعام والماء، وأصيبا بإعياء شديد حتى اقتربا من الموت. تركت هاجر إسمعيل تحت إحدى الأشجار، لأنها قالت: «لا أنظر موت الولد» فجلستْ مقابله ورفعتْ صوتها وبكت. هنا يظهر الله مرة أخرى في هذا الوقت الصعب إذ سمع صوت الغلام: "ونادى ملاك الله هاجر من السَّماءِ وقال لها: «ما لك يا هاجر؟ لا تخافي، لأنَّ الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو. قُومِي احْمِلِي الْغُلاَمَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً. وَفَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلاَمَ. وَكَانَ اللهُ مَعَ الْغُلاَمِ...» (17:21-21) إن عناية الرب ورحمته لم تتوقّف تجاه هاجر وإسمعيل.
المشهد الأخير عندما مات إبراهيم، يأتي إسمعيل ويشترك مع أخيه إسحق في دفن أبيه (تكوين 7:25-٩). وكان إسمعيل وقتها قد بلغ التسعين من عمره وإسحق في الخامسة والسبعين تقريبًا، بما يعني أنه كان بينهما سلام رغم ابتعادهما جغرافيًا.
كل ما سبق يؤكد لنا أن قطار النعمة في عصر الآباء لم يفت هاجر وإسمعيل.
أليعازر الدمشقي
نتعرّف على أليعازر الدمشقي في تكوين 24 مع أن اسمه لم يرد هناك. لكن بقراءة النصين التاليين معًا، نتيقّن أنه هو المكتوب عنه في تكوين 24. "فَقَالَ أَبْرَامُ: «أَيُّهَا السَّيِّدُ الرَّبُّ، مَاذَا تُعْطِينِي وَأَنَا مَاضٍ عَقِيمًا، وَمَالِكُ بَيْتِي هُوَ أَلِيعَازَرُ الدِّمَشْقِيُّ؟» وَقَالَ أَبْرَامُ أَيْضًا: «إِنَّكَ لَمْ تُعْطِنِي نَسْلًا، وَهُوَذَا ابْنُ بَيْتِي وَارِثٌ لِي.» (2:15-3)
"وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِعَبْدِهِ كَبِيرِ بَيْتِهِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لَهُ: «ضَعْ يَدَكَ تَحْتَ فَخْذِي، فَأَسْتَحْلِفَكَ بِالرَّبِّ إِلهِ السَّمَاءِ وَإِلهِ الأَرْضِ أَنْ لاَ تَأْخُذَ زَوْجَةً لابْنِي مِنْ بَنَاتِ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ أَنَا سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ." (2:24-3)
كان لإبراهيم عدد كبير من العبيد يرعون قطعان الأغنام والماشية، وكان من عبيده 318 رجلًا مُدَرّبين على القتال. في الغالب هؤلاء من دخل بهم الحرب ضدّ كدرلعومر والملوك الذين معه (تكوين 14). من بين كلّ عبيده، تميّز أحدهم وهو أليعازر الدمشقي، والذي تبنّاه إبراهيم – حسب العرف السائد في ذلك الوقت – واعتبرهُ "ابنَ بيته". وكان إبراهيم مستعدًّا أن يُورثه كلّ ممتلكاته (تكوين 2:15-3)، إذ لم يكن له نسل في ذلك الوقت.
عندما نصل إلى تكوين 24، نكتشف أن العبد السوري الوثني قد أصبح مؤمنًا كسيّده. كيف آمن؟ وكيف عرف الإله العليّ؟ ومن علّمه الصلاة والسجود لهذا الإله؟ حتمًا هو إبراهيم الذي كان "يدعو باسم الرب".
طلب إبراهيم من أليعازر أن يبحث له عن زوجة لابنه إسحق، وكان على العبد أن يسافر من كنعان إلى مدينة ناحور في أرام النهرين حسب تعليمات إبراهيم، ليأخذ لإسحق زوجة من هناك. وأحسّ أليعازر بحجم المسؤولية الكبيرة، وزاد على ذلك، العهد الذي قطعه معه إبراهيم لإتمام هذا الأمر (تكوين 1:24-9). فما كان من أليعازر إلا أن يطلب وجه الله، بل ويمكننا أن نراه في هذا الأصحاح رجل صلاة، فقد صلى في هذه المهمة ثلاث مرات على الأقل:
1- صلاة لطلب المعونة والإرشاد
"وَقَالَ: «أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهَ سَيِّدِي إِبْرَاهِيمَ، يَسِّرْ لِي الْيَوْمَ وَاصْنَعْ لُطْفًا إِلَى سَيِّدِي إِبْرَاهِيمَ. هَا أَنَا وَاقِفٌ عَلَى عَيْنِ الْمَاءِ، وَبَنَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَارِجَاتٌ لِيَسْتَقِينَ مَاءً. فَلْيَكُنْ أَنَّ الْفَتَاةَ الَّتِي أَقُولُ لَهَا: أَمِيلِي جَرَّتَكِ لأَشْرَبَ، فَتَقُولَ: اشْرَبْ وَأَنَا أَسْقِي جِمَالَكَ أَيْضًا، هِيَ الَّتِي عَيَّنْتَهَا لِعَبْدِكَ إِسْحَاقَ. وَبِهَا أَعْلَمُ أَنَّكَ صَنَعْتَ لُطْفًا إِلَى سَيِّدِي.»" (12:24-14)
إنه يطلب من الرب أن يسهِّل له مهمته "يَسِّرْ لِي الْيَوْمَ". في كلامه للربّ لم ينسَ سيّده إبراهيم "أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهَ سَيِّدِي إِبْرَاهِيمَ"، "وَاصْنَعْ لُطْفًا إِلَى سَيِّدِي إِبْرَاهِيمَ". هذا يكشف مدى ثقته من علاقة سيده إبراهيم بالرب. في كلامه مع الرب وضع علامة لاستجابة صلاته، ويُقبَل أمر العلامة هذا بحسب المعرفة المحدودة والإيمان الذي كان له، وقد قَبِل الرب إيمانه واستجاب صلاته، بل وأعطاه نفس العلامة التي طلبها.
2- صلاة الشكر
"فَخَرَّ الرَّجُلُ وَسَجَدَ لِلرَّبِّ، وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَيِّدِي إِبْرَاهِيمَ... إِذْ كُنْتُ أَنَا فِي الطَّرِيقِ، هَدَانِي الرَّبُّ إِلَى بَيْتِ إِخْوَةِ سَيِّدِي." (26:24-27) صلّى أليعازر الدمشقي هذه المرّة ساجدًا، تعبيرًا عن شكر قلبه العميق، وبارك الله الذي هداه في الطريق إلى بيت إخوة سيده.
3- صلاة اليقين
"وَكَانَ عِنْدَمَا سَمِعَ عَبْدُ إِبْرَاهِيمَ كَلاَمَهُمْ أَنَّهُ سَجَدَ لِلرَّبِّ إِلَى الأَرْضِ." (52:24) كان هذا بعد أن رأى موافقة لابان وبتوئيل وسمع منهما القول: «مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ خَرَجَ الأَمْرُ. لاَ نَقْدِرُ أَنْ نُكَلِّمَكَ بِشَرٍّ أَوْ خَيْرٍ." (50:24) كل هذا يؤكد لنا إيمان أليعازر الدمشقي، وبالثقة في نعمة الله نراه ضمن دائرة مختاري الله.