"لك النهار ولك أيضًا الليل." (مزمور 16:74)
لو اخترت أن تكون مؤمنًا ناضجًا فينبغي أن تتوقّع أن الله سيخُصّك بتلمذة أكثر صرامة
وبمعاناة أشدّ من تلك التي يلقاها أي مؤمن آخر لم يطلب طريق النضوج الروحي، سيجيزك الله في أوقات حالكة كالليل لكنك ستخرج منها أكثر نضجًا وأشدّ صقلاً.
لو اخترت أن تكون مؤمنًا ناضجًا فلن يكون الله "رقيقًا" معك في كل الأوقات كما اعتدت عليه من قبل، فالنحات البارع لا يستخدم قصّاصة الأظافر لكي يشكّل قطعة الحجر القاسية ويصنع منها تمثالاً جميلاً، بل يستخدم المنشار والمطرقة والإزميل، إنها أدوات قاسية لكن بدونها ستطلّ الصخرة القاسية بلا جمال إلى الأبد.
إذا اخترت أن تكون مؤمنًا ناضجًا فلا بدّ أن تتوقّع أنّ معاملات الروح معك ستكون مختلفة عن معاملاته مع إخوتك المؤمنين، وبالتالي ستجد نفسك قد أصبحت مختلفًا عنهم، هم سعداء وأنت حزين، هم يتحدّثون عن اختبارات الفرح والسلام وأنت تجتاز اختبارات الألم والتجرّد، هم يفرحون بمحبة الله وإحسانه وأنت تستشعر الضغط والشدة، لكن ثق! فكل هذا سيؤول لنضجك الروحي، وبينما يظل المؤمنون الذين رفضوا طريق الألم على رمال الشاطئ ستختبر أنت نهر السباحة الذي لا يُعبر.
في الليل سيأخذ الله من قلبك كل محبة غريبة، سيجرّدك من كل ما تثق فيه وتتّكل عليه، وحيث اعتدت أن تضع كنوزك ستجد أَكوامًا من الرماد! فلن يأخذ منك الأشياء، لكنه سيعلّمك ألّا تضع قلبك عليها، فهو وحده القادر أن ينزع الأشياء من قلوبنا وهي بعد في أيدينا! سيدعك الله تمتلك كل شيء ولكنه سيجعل قلبك غير مستمتع أو مكتفٍ بأيِّ شيء، كلّ هذا لكي يحرّر قلبك من قيد الأرضيات، ويطلقه لكي يُحلّق معه في السماويات، سيملأ قلبك بجوعٍ وعطشٍ نحو الأمور الأبدية، في الليل ستكتشف فراغ العالم وعجزه عن إشباع قلبك، وستنشأ بداخلك طلبة نحو شخص الله نفسه، وهذه أولى الخدمات التي يسديها لنا الليل!
في الليل أيضًا ستتعلّم كيف تتحرّك بالإرادة عندما تكون مشاعرك مرهقة عاجزة، وستتعلّم أيضًا أن تتحرّك بالإيمان لأنك أحيانًا لا تستطيع أن تبصر الخطوة القادمة من شدّة الظلام، ووقتها ستتعلّم أن الإيمان الحقيقي موجود في الإرادة وليس في المشاعر الحماسية! وهذه خدمة ثانية للّيل.
في الليل ستكتشف محبة الله بصورة أعمق وإن كانت أبطأ! بصورة حقيقية بعيدًا عن العواطف المتأجّجة التي طالما ضخّمت الأمور وأكسبتها حجمًا أكبر من حجمها الحقيقي.
في الليل ستتعلّم ما هو الطريق الضيّق الكرب وكيفية السير فيه، سيدفعك الله للدخول فيه لأنك ستجده الطريق الوحيد المفتوح أمامك، وهناك ستتعلّم أن تتيقّن من مركزك السماوي كابنٍ لله حتى وأنت تعاني وتتألّم، وستتعلّم كيف تجعل المشاعر تأتي وتذهب دون أن تؤثر على وجودك أمام الله.
في الليل ستتعلّم قدرة الألم على التنقية والتحرير والاتّضاع، وستتعلّم أن الألم يستطيع أحيانًا أن يفعل ما لا يستطيع الفرح أن يعمله.
في الليل سوف تبدأ نظرتك للناس والأشياء تكون أكثر نضجًا وشمولاً، ستتعلّم أن تنظر لأيّ أمر بتأنٍّ ومن جميع الزوايا، ستتعلّم أن تنظر كما ينظر الله.
وخلاصة القول إن الله يُدخلنا إلى الليل لكي يعلّمنا ما لا تستطيع كل مدارس العالم أن تعلّما إياه. إن الليل في سلطان الله مثل النهار، ولقد سخّر الله الليل لخدمتنا مثل النهار تمامًا.
حدود الليل
لكن هناك حدود لقدرة الإنسان على احتمال الليل، فحتى أقسى المعادن تتحطّم لو ظلّت لفترات طويلة تحت ضغط متواصل، والإنسان لا يستطيع أن يعيش طويلاً بدون راحة أو سرور، حتى يسوع استطاع أن يحتمل الصليب مستهينًا بالخزي لأجل السرور الموضوع أمامه، والله إلهك يعلم بالضبط مقدار الضغط الذي تستطيع أن تحتمله، لذلك فهو لا بد أن يمنح نفسك تعزية مناسبة من وقت إلى آخر لكي تستطيع أن تواصل السعي حتى يكمل وقت وجودك في هذا الليل.
ووقت وجودنا في الليل يتوقّف على عدة عوامل، بعضها يتوقّف عليك وينبغي أن تكون أمينًا لكي ينتهي الليل بسرعة، ولكن بعضها الآخر قد يبقى سرًّا في إرادة الله، وعندئذ ينبغي أن تسلّم أمرك لحكمة الله التي تحدّد لك مدى وجودك في الليل.