يرسم داود في مزمور 4:23 لوحة رائعة تعبر عن خلاصة اختباراته في رحلة الإيمان، والسير مع الرب.
لكن تلك اللوحة يتخلّلها بقعة سوداء من الألم والحزن والضيق تعكّر صفو العِشرة مع الرب، يصوِّرها داود بشكل وادٍ سحيق محفوف بالمخاطر، يسمّيه وادي ظلّ الموت. ولا يقصد بهذا الوادي فقط لحظة مواجهة الموت في نهاية الرحلة، والانتقال بسلام إلى الأبدية، بل إن تشبيه الوادي يعبِّر عن تلك اللحظات والأيام، وغالبًا السنين الطويلة المظلمة، والعصيبة التي نمرّ فيها، وتبدو لنا نفقًا مظلمًا ليس له نهاية. إن حقيقة وادي ظلّ الموت هي:
أولًا: حتمية
منذ لحظة سقوط آدم في الخطيئة، دخل الألم والحزن، والضيق وكل أنواع المصائب، والشرور إلى عالمنا. فنحن ببساطة نعيش في عالم ساقط، ومتمرّد على الله، وبالتالي فإن كأس الألم والضيق والحزن هو أمر حتميّ، واختبار مشترك، لكلّ البشر، ولا يُعفى منه أحد، مؤمن، وغير مؤمن. لكن المسيحي الحقيقي ينال نصيبًا أكبر من الألم والضيق بسبب حمل الصليب واتِّباع المسيح. فلم يَعِدْ المسيح تلاميذه بأن طريقه سيكون مفروشًا بالورود والرياحين، بل قال بصريح العبارة: "في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم." (يوحنا 33:16) وتؤكد ذلك كلمة الله والاختبار الشخصي، حيث يقول بولس: "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطَهَدون." (2تيموثاوس 12:3) وبحسب أعمال 22:14 "... وأنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله". ويؤكد يسوع نفس الحقيقة في متى 13:7 "ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدِّي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه!" إن اختبار المؤمنين الألم والضيق هو أمر حتمي نتيجة لوجودهم في عالم ساقط، وأيضًا لاتباعهم المسيح، وحملهم الصليب.
ثانيًا: مفاجئة
تأتي المصائب عادة بلا مقدمات، ولا سابق إنذار. فقد نُفاجأ بمكالمةٍ مزعجة تغيِّر مجرى حياتنا، أو نتلقّى نتيجة تحليلٍ طبيٍّ بوجودِ ورمٍ غير حميدٍ في جسدنا. أو نُصدَم بوفاة أحد أحبائنا في حادثٍ أليم، أو نخسر وظيفتنا. نجد في قصة أيوب خيرَ مثالٍ على وجود عنصر المفاجأة في قدوم المصائب، فقد خسر أيوب كلَّ ثروته، ثم كلَّ أولاده، ثم صحَّته في مدّةٍ لا تتجاوز ثمانٍ وأربعين ساعة (أيوب 13:1). وبما أنه أحيانًا ما تكون أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فإن أفضلَ طريقةٍ لمواجهة المِحَن هي الاستعداد مُسبقًا للاحتمال الأسوأ، وذلك بتسليم كلّ أمورنا للرب، واتكالنا عليه، وأن نعقد العزم على احتمال المشقّات لأجل المسيح. يحثّ بولس تيموثاوس بقوله: "فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح". (1تيموثاوس 3:2)
ثالثًا: مؤقتة، وتحت سلطان الله
يكتب بولس: "لإن خفّة ضيقتنا الوقتيّة تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقلَ مجدٍ أبديًّا." (2كورنثوس 17:4) فرغم حتميّة ومفاجئة آلام الحياة وضيقاتها، إلا أنها تبقى أرضيّة، مؤقّتة، ومحدودة، ولا تُقاس ولا تُقارَن بأمجاد الأبدية، كما يقول بولس: "فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا." (رومية 18:8) سوف تنتهي آلامنا عند اكتمال قصد الله منها، وهي جزء مهمّ في تشكيلنا الروحي، لنكون مشابهين صورة يسوع. عادة يتعامل الله مع ضيقتنا بطريقتين: فأحيانًا يتدخّل وينتشلنا منها فورًا، كما فعل مع بطرس عندما أنقذه من الغرق (متى 31:14). وغالبًا ما يرافقنا في وسط آلامنا ويمنحنا سلامًا، وقوةً للاحتمال، واجتيازها بانتصار، فعندما تضرّع بولس لأجل شوكته في الجسد كان جواب الله له: "… تكفيك نعمتي لأن قوّتي في الضعف تُكمَل." (2كورنثوس 9:12) نجد في لائحة أبطال الإيمان في عبرانيين 35:11 أن البعض نجا من الموت، والبعض لم ينجوا، بل ماتوا كي ينالوا قيامة أفضل. لكن العنصر الحاسم، والأهم في اجتياز وادي ظلّ الموت، هو حضور الله الدائم معنا في أحلك ساعات الظلمة. الله يرافق المؤمن بتعزيته وسلامه، وإرشاده. ومهما اشتدت الضيقات، فهي تبقى تحت سلطانه المطلق. ويستحيل حدوث أي أمر بدون إذنه.
يُطمْئِن يسوع تلاميذه بالقول: "أليس عصفوران يباعان بفلس، وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون أبيكم. وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة." (متى 29:10) لذلك لا نخشى شرًا في مسيرنا في الوادي، لأن الرب معنا، ويرافقنا حتى نهاية الرحلة.