يتميّز النسر عن باقي الطيور بعدة أمور أهمها قوّة جناحيه وحدّة بصره. فهو يرى فريسته
من حوالي أربعة أميال، ويستطيع أن يطير بسرعة 30 ميل في الساعة في الأجواء المرتفعة جدًّا ويقاوم الريح. ويُقال إن سرعة النسر الذهبي هي حوالي 75 ميلًا في الساعة. النسر هو من الطيور المعمّرة. يُقال إنه يعيش حوالي مائة سنة، فعندما يبلغ الستين سنة، ينثني منقاره ويتقوّس ويتشقّق، فيقوم بضرب منقاره في الصخر حتى ينكسر ويتخلّص منه نهائيًا.
عندئذ يخرج له منقار جديد كالمنقار الذي كان له في شبابه. وفي نفس العمر، يقوم أيضًا بحكّ جسمه في الصخور، فيسقط الريش العتيق وينبت له ريش جديد - يُقال بعد هذه العملية أنه يعيش حتى المائة عام. وقد لمّح إليها النبي داود في مزمور 5:103 بقوله: "الذي يُشبِع بالخير عمرَكِ، فيتجدّد مثل النسر شبابك". ومن حيث قوة جناحيه تقول كلمة الله: "وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ..." (إشعياء 31:40) ويكلّمنا الوحي المقدّس عن معاملة النسر لفراخه بقوله: "كما يحرّك النسر عشّه وعلى فراخه يرفّ، ويبسِط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه، هكذا الرب اقتاده وليس معه إله أجنبي". (تثنية 11:32-12)
نجد في هذه الآية مقارنة بين تحريك النسر لعشّه ومعاملات الرب مع شعبه!
يبني النسر عشّه في قمم الجبال، ويبطّنه من الداخل بريش ناعم، ويحيطه من الخارج بالأشواك المدبّبة لحماية فراخه من الحيّات، ويضع بيضه في العشّ ويحتضنه لمدة 55 يومًا تقريبًا، ثم يفقس البيض وتخرج فراخه للحياة. ولأن النسر يتزوج بأنثى واحدة فقط مدى الحياة، فيقوم مع أنثاه برعاية الفراخ الصغيرة لمدة تصل إلى 100 يوم.
تأتي بعد هذه الفترة مرحلة تحريك العشّ وقلبه للداخل فتلامس الأشواك جسم الفراخ الصغيرة؛ هذه العملية مؤلمة للغاية للفراخ، لكنها ضرورية لكي تتعلّم الفراخ الطيران ولا تقبع في العشّ. عندئذ تضطرّ أن تخرج من العشّ لتجد النسر قريبًا منها، فيحملها على جناحيه ويرتفع بها إلى أقصى درجة ممكنة من الارتفاع ثم يطرحها إلى أسفل إلى الأرض. عندها تضطرّ الفراخ أن ترفرف بأجنحتها وتصرخ من الخوف والألم... ولكن قبل أن تصل إلى الأرض يحملها من جديد على جناحيه ويصعد بها إلى الأعالي ثم يسقطها مرة أخرى... ويكرّر هذه العملية المؤلمة مرات إلى أن يتأكّد أنّ فراخه قد تعلّمت الطيران، ثم يتركها لتشقّ طريقها في الحياة لوحدها.
ومن هذا الطرح نجيب عن سؤالين؟
أولاً: ما هي الأيادي المحرّكة لعشّ حياتنا؟
يرمز العشّ إلى الأمان والهدوء والاستقرار، ويؤدّي تحريك العشّ إلى الألم والصراخ، والجروح، والخوف، إلخ... يتحرّك العشّ أحيانًا بفقدان شريك الحياة، أو موت أحد الأبناء أو الأحباء، أو خسارة في العمل، أو ظروفٍ صعبة، إلخ... والأيادي التي تحرِّك العشّ كثيرة، أذكر منها:
1) يد الإنسان نفسه: "برّ الإنسان يقوِّم طريقه، أما الشرير فيسقط بشرِّه." (أمثال 5:11)
فالإنسان بشرّه وفساده، يقلب عشّ حياته بنفسه. فقد يهدم صحّته أو سمعته أو عمله ومستقبله أو حياته العائلية. وقد يكون السبب إدمان المخدّرات أو النجاسة والزنا والعلاقات غير الشرعية، وعدم الاستقامة وارتكاب الشرور والآثام. ولنا أمثلة كتابيّة كثيرة، على رأسهم آدم، الذي هدم بنفسه عشّه في الجنة. كان في حالة استقرار وراحة وشركة وبهجة، لكن بسبب العصيان قلب عشّه بيده، فخرج للتعب والألم.
قلَبَ أليمالك عشّ عائلته بأكملها عندما اختار أن يذهب مع عائلته من بيت لحم إلى بلاد موآب الوثنيّة والشريرة، فمات هو وأولاده الاثنين في أرض الغربة وترمّلت زوجته نعمي ثم رجعت إلى بيت لحم مكسورة. وكذلك شمشون، ولوط، والابن الضال، إلخ... الذين حطّموا حياتهم بالخطية، فالخطية خاطئة جدًّا، وأجرتها عبوديّة وخراب ودمار وموت.
2) يد الشيطان: هو المخرّب الأول، الكذّاب وأبو كلّ كذاب، القتّال والمُهلِك... لا يسكت ولا يهدأ عندما يرى الإنسان في استقرار وراحة، أو كنيسة ناهضة، أو صاحب عمل ناجح أو عائلة مستقرة. يشتكي عليه، ويخرب بيته، ويقلب عشّ حياته كما فعل مع أيوب، أو يضربه بالمرض كما فعل مع بولس والمرأة المنحنية، أو يضربه بالمخدرات والمعاشرات الرديّة، أو يتأمّر عليه مستخدمًا الأشرار ضدّه كما فعل مع دانيآل وزملائه. "اصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ. فَقَاوِمُوهُ، رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ، عَالِمِينَ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الآلاَمِ تُجْرَى عَلَى إِخْوَتِكُمُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ". (1بطرس 8:5)
3) يد الله المباركة: عندما يحرّك الرب عشّ حياتنا فإنما يحرّكه للخير والبركة وللأفضل وليس للتدمير والخراب. مثلما حدث مع يوسف فحرّك عشّه للخير والبركة والمجد، حتى وان كان قد سمح له بكلّ الآلام الصعبة، التي اجتاز فيها، لكن كان كلّ ذلك لخيره، وهذا باعترافه عندما قال لإخوته: "أنتم قصدتم لي شرًّا، أما الله فقصد به خيرًا، لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعبًا كثيرًا". (تكوين 20:50)
ثانيًا: لماذا يحرّك الله عشّ حياتنا؟
لا يمكن أن يعمل الله عملًا اعتباطيًّا، أو عشوائيًّا، أو ارتجاليًّا، أو صدفة بدون هدف أو مغزى. "وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا"، بل كلّ عملٍ يقوم به الله، لا بدّ من أن يكون له أهدافٌ جليلة وسامية ومباركة لخير المؤمن وخير البشرية. فما هي:
1) ليعلّمه خبرة جديدة، وحكمة التنوّع
لا تسير الحياة على وتيرة واحدة، بل فيها الليل والنهار، الظلمة والنور - هكذا حياتنا - فيها الحزن والفرح، الدموع والسعادة، التعب والراحة، الألم والهدوء، الأمراض والصحة، والوجع والقوة، الأشواك والورود، فترة هدوء في العشّ، والأم خارج العش... "في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم". هكذا كان في حياة السيد المسيح يوم الجمعة الحزينة، ظلام وآلام وصليب وموت، ولكن في يوم أحد القيامة نور وسلام وفرح وحياة وانتصار.
لنتخيّل بأنه لا يوجد موت في العالم نهائيًّا بل حياة فقط، فماذا يمكن أن يحدث؟ تأتي حروب مستمرّة ومجاعات وأوبئة وشرور أكثر، ولكن الله في حكمته جعل هذا التنوّع في الحياة فلا تكون مملّة.
يأتي هدم العشّ باختبارات أكثر وأعمق: اختبار قوة الله التي تحملني على جناحيه؛ اختبار عيني الله الساهرة التي ترافقني طوال رحلة العشّ المقلوب؛ اختبار رعاية الله الفائقة التي لا تتخلّى عنّي!
2) البلوغ والنضج: مكان النسر في الجوّ وليس في العشّ. لا يبقى النسر فرخًا صغيرًا يقبع دائمًا في العشّ، بل يخرج من العشّ، وينمو ويطير ويبحث عن طعامه ويتزوج ويعيش حياة النسور.
هكذا يكون مع المؤمن، بألّا يكتفي باختبار التجديد، بل يخرج من مرحلة الطفولة إلى النضج الروحي... يحتاج أن ينمو إلى ملء قامة المسيح، ويشابه المسيح كل يوم! لا يكتفي اختبار المياه إلى الكعبين بل بالدخول إلى نهر سباحة لا يُعْبَر. "كونوا كاملين... كونوا رجالًا... كونوا قديسين لأني أنا قدوس." لا تستمرّ طفلًا بل انمَ واكبَر وكنْ رجلًا.
إن تحريك العش أو هدمه من قبل الرب يدفعنا لكي ننضج وندخل إلى العمق ونسمو في جوّ الروحيات.
3) تدريب وانطلاق: للتدريب على الطيران وحمل المسؤولية. كان يظن التلاميذ أن الصليب بمثابة هدمٍ لعشهم واستقرارهم وخدمتهم ومستقبلهم، فموت المسيح مصلوبًا ملأ حياتهم بالحزن والألم والخوف والإحباط، لكن الصليب كان ضروريًّا لهم وللبشرية جمعاء، هو الوسيلة الوحيدة للفداء والخلاص.
ولكن بعد القيامة، وحلول الروح القدس أدركوا ضرورة الصليب، فاختبروا قوة الصليب للخلاص، وانطلقوا للبشارة والكرازة معلنين بكل جرأة افتخارهم بالصليب. "أما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وأنا للعالم". (غلاطية 14:6)
4) اختبار محبة الله بعمق: بتحريك العش ألم وجروح، ولكن هذا يبطَّن بالمحبة والعناية الفائقة من الله. فالنسر يرافق فراخه وهي تسقط وترفرف إلى أسفل.
تخيّل، بعد أن يتعلّم الطيران، وإطعام نفسه بنفسه، وأخذ مكانه في الجو بين النسور، أعتقد لو له لسان ليتكلّم، فإنه يأتي ويشكر أباه.
بقاء النسر في العش طول العمر، عجز وعدم نموّ، وفقدان لهويّته وطبيعته.
ختامًا، من المهم أن تعرف اليد التي حرّكت عشّك، واحذرْ من أن تكون أنت السبب في تحريك عشّك، وإن كان إبليس، فقاومه بإيمان، لكن إن كان الرب، فافهم لماذا، وثق بأنه يحرّكه لصالحك تمامًا فاشكره لأنه الآب المحبّ الذي يعمل كلّ الأشياء دائمًا لخيرك.