على مرِّ التاريخ، رسمَ كثيرون لوحاتٍ فنّيّةٍ بإبداعٍ شديد، وعاشتْ هذهِ اللّوحات سنينَ
وسنين تحملُ توقيعَهم وختمَهم وربّما جزءًا ليس يسيرًا من روحِهم ومن وجدانِهم، وحقّقت هذه اللّوحات انتشارًا وشهرةً في كلِّ العالم.
لكنّني سأُخبرُكم عن لوحةٍ لم تُرسم بريشةٍ بل بقلبٍ وفكرٍ راسخَين بالإيمان، ولم تُزيَّن بألوانٍ زيتيّةٍ أو شمعيّة بل بسلوكٍ واختياراتٍ وتضحيات، ولم تُوقَّع بخاتمِ فنّان بل بختم الروح القدس والمُكرِّسينَ أنفسَهم للإرساليّة العُظمى.
مكان اللّوحة هو مدينة غلاطية القابعة في أواسط آسيا الصغرى. تاريخ إنشاء اللّوحة هو قرابة منتصف القرن الميلادي الأول. القائمون على اللّوحة هم فريق الكرازة والتبشير بقيادة بولس الرسول. نستنتج ماهيّة اللّوحة من رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية بينما كان يوبّخُهم على عودةِ بعضهم لأعمال الناموس: "أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا!" (1:3) اللّوحة البديعة هي: يسوع المسيح المصلوب أمام أعين أهل غلاطية والكنيسة هناك. والسؤال المهمّ لجميعنا اليوم: كيفَ رُسِمَت لوحة عظيمة كهذه في غلاطية؟ وكيف نرسمها في أيامنا الحاضرة؟
تُرسَم هذه اللّوحة الأصيلة:
1- بالإيمان: "أنتم الذين أمام عيونكم قد رُسِم يسوع المسيح بينكم مصلوبًا!" تمَّ هذا بواسطة إيمان بولس الذي نالَ شرف ظهور المسيح له قربَ دمشق، فتغيّر إلى إناءٍ لمدحِ مجد السيّد، وحملَ التكليف إلى الأمم هنا وهناك، وجالَ في حياتِه ورحلاتِه ليصلَ بالكرازة والأخبار السارّة إلى الجميع ومنهم الغلاطيّون، وكانت اللّوحة في غلاطية عبارة عن انسجام وتناغم ما بين كلمات بولس وتعليمه وحديثه عن المسيح وبينَ عيون الغلاطيّين الذين تجاوبوا بإيمانهم مع إيمان بولس. وكأنَّ باللّوحة والعيون الشاخصة إليها والمؤمنة بها تعودُ بنا إلى عيون الشعب القديم يومَ لدغتهم الحيّات المُحرقة (عدد 6:21-٩)، وحينها قال الربّ لموسى أن يصنعَ حيّةً نحاسيّةً ويرفعها على رايةٍ وكلُّ من لُدِغَ ونظرَ إليها بإيمانٍ يحيا، وكان الربُّ يسوع نفسه قد أخبرنا: "وكما رفع موسى الحيّة في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية". (يوحنا 14:3-١٥)
وما أجملَ قول بولس "مصلوبًا" فلم يذكر الحدث في الماضي كفعل تمّ وانتهى ولكن ذكَرَه في الحاضر المستمرّ، فالمصلوب ما زال يُخلّص وسيظّلُ يُخلّصُ إلى يومِ الانقضاء كلَّ المؤمنينَ به.
إنها الكرازة القائمة على الإيمان والاختبار يا أعزّائي، كانت وما زالت تُرسمُ أجمل لوحات الصليب والخلاص ليسَ على ورق ولا على جدران، بل في أعماق القلوب والأرواح المخلوقة على صورة الله ومثاله.
2- بالتكريس: "أنتم الذين أمام عيونكم قد رُسم يسوع المسيح مصلوبًا"، فالفعل (رُسمَ) يعني البروز الواضح سواءً كان ذلك بالكتابة أو الرسم أو النقش، وكان بولس قد استخدمَ شيئًا مشابهًا لهذا في نفس الرسالة حينما أرادَ أن يؤكِّد على أهميّة موضوع الرسالة، فقال: "انظروا ما أكبرَ الأحرف التي كتبتها إليكم بيدي!" (غلاطية 11:6) والتحذير هنا عن مخاطر ضلالة التهوُّد، والمقصود بالرسم هو التعليم الشفهي والسمعي الذي أعلنه بولس أمامهم وليس من خلال رسم بآلةٍ ولا نقشٍ على حجارة، بل من خلال تعليمٍ واضحٍ يرافقه تكريس وعمل ونهج حياة بموجب ما نُعلّم ينسجم مع ما نقول، لدرجة أن منظر المصلوب في الجلجثة صارَ ماثلًا أمام عيونهم وكأنهم قد شاهدوه ولمسوه وانجذبوا له، والفعل (رُسم) يعبّر عن فكرة الإعلانات والملصقات المستعملة في اللوحات الإعلانيّة والشاخصات الاسترشادية للمسافرين. إنها الكرازة القائمة على والمدعومة بِنمط حياة منسجمٍ معها.
أعزائي، إن حياتنا المقدسة والباذلة والمنسجمة مع كرازتنا ما زالت ترسم أجمل لوحات المصلوب وخلاصَهُ نورًا وهدايةً لكلّ التائهين في بحر هذا العالم الهالك، وتخلق فيهم سؤالًا عن سبب الرجاء الذي في الكارزين والمكرّسين.
3- بختم الروح القدس: لقد ألقى الرسول بطرس أحدَ أعظم عظاتِهِ في يوم الخمسين، وخاطب اليهودَ قائلًا: "هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ". (أعمال 23:2) فالصليب حدثٌ تاريخيٌّ تمَّ في مكانٍ معيّن وتوقيت زمني محدّد، لكنّهُ في فكر الله ومشورته المحتومة منذ الأزل وتمَّ بحسب علمهِ المُسبق، وروح الله الذي انسكب في ذلك اليوم العظيم هو الذي رسم اللوحة المجيدة للغلاطيين ولنا ولكلّ المؤمنين عبر الأزمان. ومع أنّ المسيح لم يُصلب في غلاطية بل في أورشليم، إلّا أنّ عمل الروح القدس بينَ الغلاطيّين وفيهم ساهمَ في رسم اللوحة عبرَ كلمات بولس وكرازته وتكريس حياته مع فريقهِ، كلُّ هذا لأن الربّ يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقِّ يُقبلون، أولمْ يقل أنه سيرسل روحَه للغلاطيّين ولنا من أجل أن يعلّمنا كلّ شيء ويذكّرنا بكلِّ شيء (يوحنا 26:14)؟ هذا الروح القدس الذي به ختم الله المؤمنين وهو يمكث فيهم، فكيف لا يجذبهم للمسيح ولعمله العظيم!
يصوّرُ لنا الروح القدس حدثَ الصليب بأبهى لوحةٍ فدائية أثناء قيادة سفينة حياتنا نحوَ المسيح، فتجثو أرواحنا أمام الحدث، وندركُ ضعفنا وخطايانا، ونختبرُ حبَّ الآب العظيم، ونخلص بصليب ابنه المرسوم أمام عيون أرواحنا، وهنا دورنا أخي وأختي لنعمل نحنُ بدورنا على رسم هذه اللّوحة أمام عيون من يحيطون بنا، بريشة الإيمان وألوان السلوك النقي والمقدّس معتمدين على ختم الروح القدس الذي يمكث فينا وتوقيعه وعمله.