المجلة
لقد تكلم الكتاب المقدس كثيرًا عن الحرية، وعن عمل المسيح في تحريرنا من العبودية، فما هي الحرية إذًا في المفهوم المسيحي؟
دعونا نذكر بعض الآيات التي تحدّثنا عن الحرية:
يقول الكتاب: "فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يوحنا 36:8).
"فاثبتوا إذًا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبودية" (غلاطية 1:5).
"روح الرب عليّ، لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية" (لوقا 18:4).
تقول هذه الآيات بأن المسيح قد جاء ليحرر الإنسان... فهل كان الإنسان عبدًا في حاجة إلى تحرير؟
في الواقع، إن الإنسان، بدءًا من آدم وعبر جميع العصور، لم يستطع أن يتغلّب على الخطية، بل قهرته الخطية وأذلته واستعبدته. ثم جاء ناموس موسى بما يحمله من شرائع إلهية، فأدان الإنسان بسبب خطاياه، وحكم عليه بالموت. لكن، لما جاء المسيح حرر الإنسان من سلطان الخطية وسطوة الناموس عليه بفضل خطة إلهية منظمة للخلاص تسير وفقًا للمنهج التالي:
أولاً: بتقديم نفسه ذبيحة كفارية
تم ذلك بموته على الصليب، إذ استطاع بموته هذا أن يوفي حق الله وعدله تجاه تعدي الإنسان. فبموته كبديل عني وعنك، افتدانا من حكم الموت الذي كان يجب أن ينفذ فينا لأننا نستحقه، وسحق رأس الحية الذي هو إبليس، وأوقف سلطانه المميت والنافذ على الإنسان. يقول الكتاب: "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية" (عبرانيين 14:2–15).
ومعنى هذه الآية أن الرب جاء من مجده في صورة إنسان، إذ اشترك في اللحم والدم، وهو قد مات لكي يبيد بالموت إبليس ويسحق رأس الحية وسبب كل خطية، وهكذا صار لنا العتق والتحرر من كل خطية ومن كل سلطانها علينا. المقصود بموت إبليس وإبادته هو انقضاء سلطانه على أولاد الله الذين يتبعون ملكوت الله، فهو لم يعد له سلطان عليهم بعد، إلا إذا انجذبوا بإرادتهم إليه وإلى مغرياته، فهو في الواقع ما زال يحوم حولهم فقط ويزأر ملتمسًا من يبتلعه: "اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1بطرس 8:5).
ثانيًا: تمت المصالحة بين الله والإنسان
يقول الرسول بولس: "إن الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة" (2كورنثوس 5 :19).
وبهذه المصالحة مع الله وحكم البراءة الذي يناله كل من يؤمن بهذا العمل الفريد،
ثالثـًا: أصبح في استطاعة روح الله القدوس أن يسكن في كل إنسان يؤمن بهذا الخلاص
وبوجود الروح القدس داخل الانسان،
رابعًا: أصبحت الخطية تحت السيطرة
وأصبح الإنسان الجديد المولود ثانية قادرًا أن يمسك بزمام الأمور، وذلك بعمل الروح القدس الساكن فيه. فالروح القدس قادر أن يعين ضعفاتنا، وبه ننال النصرة على الخطية والتحرر من سلطانها إن طلبنا من الله ذلك. وكما قال أحد الخدام أنه بعد أن يسكن الروح القدس في الإنسان المؤمن المتجدد فإن "الطيور" التي تحمل أفكار الخطية قد تستطيع أن تقف برهة على رأسه، لكنها لا تستطيع أن تبني عليه عشًا.
ولكن، ما هو التطبيق العملي للحرية في المسيح؟
إن برهان هذه الحرية يتبلور في دعوة الإنجيل لنا بألا يتحكم أحد فينا أو في حريتنا. فقد قال الرسول بولس: "فلا يحكم عليكم أحد في أكل أو شرب، أو من جهة عيد أو هلال أو سبت" (كولوسي 16:2).
ويقول إن المسيح بموته على الصليب قد محا تمامًا صك الفرائض الذي كان علينا في الناموس: "إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب" (كولوسي 14:2). وهذا يعني أنه بموت المسيح على الصليب، فَقَدَ ناموس الفرائض - الذي كان يدين الناس - سلطته القانونية، إذ أنَّ المسيح كابد بموته لأجل الإنسان لعنة الناموس. إذًا نحن في المسيح خليقة جديدة، وأحرار! هذه هي حرية مجد أولاد الله التي تكلم عنها الكتاب بأننا أحرار ولم تعد تحكمنا طقوس أو فرائض أو لائحة ممنوعات، بل يقول الكتاب بأننا وأجسادنا، بكل ما نحمله من ضعفات أو حتى قدرات، قد متنا مع المسيح على الصليب، وأصبحت حياتنا ليست ملكًا لنا، نوجّهها وفقًا لقانون خاص أو فريضة معينة، بل أصبحت حياتنا ملكًا للمسيح، ومستترة مع المسيح، وكل ما نحياه الآن إنما نحياه في المسيح.
يقول الكتاب: "لأنكم قد متّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كولوسي 3:3).
وعن موتنا عن الناموس، وكوننا أموات وليس لنا حياة، وحياتنا الجديدة هي في المسيح، لخّص الرسول بولس كل هذا في رسالته إلى أهل غلاطية إذ قال: "لأني مت بالناموس للناموس لأحيا لله. مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد فإنما أحياه في الإيمان إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية 19:2–20).
كما سبق وقلت أنه ليس هناك لائحة ممنوعات أو لائحة للحلال وللحرام قد أعطانا إياها الله لنعمل بها، بل على العكس، أعطانا لائحة للحرية تفيد بأن كل الأشياء تحلّ لي ولكن... وتحت كلمة "ولكن" هذه - أرجو من القارئ العزيز أن يضع عدة خطوط - وهي ليست كلمة وضعها الوحي ليقيّدنا بها بل لتعمل كمصباح يوجّه مسيرتنا في طريق الحرية. وإليك عزيزي القارئ هذه اللائحة:
"كل الأشياء تحل لي لكن ليس كل الأشياء توافق".
"كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل الأشياء تبني" (1كورنثوس 23:10).
"كل الأشياء تحل لي لكن لا يتسلط علي شيء" (1كورنثوس 12:6).
من الآيات الثلاث السابقة يسهل علينا أن نرى حرية الإنسان في المسيحية. فهو حر في انتقائه لكافة الأمور، وحر في طريقة الحياة التي يريد أن يعيشها، والقرارات التي يريد أن يتخذها على مدى سني عمره. ولكن عليه أن يستخدم كامل حريته لكي يخرج لنا في النهاية إنسانًا يرضي الله في ثلاثة ميادين:
أمام الناس، وأمام الله، وأمام نفسه.
أولاً: أمام الناس والمجتمع
أن يكون مقبولاً في تصرفاته لدى الناس والمجتمع، سواء في مجتمع عائلته الصغير، أو مجتمع عمله، أو المحيطين به، وكل من يتعامل معه. فهو ملزم بأن يعمل الشيء اللائق به والمتوافق مع وضعه وسمعته ومركزه والمتفق مع الآداب العامة والأخلاق الحسنة "لأن ليس كل الأشياء توافق".
ثانيًا: أمام الله
أن يكون في حالة نمو وبناء روحي وفكري وجسدي وإيماني باستمرار، "لأن ليس كل الأشياء تبني". وكلمة "تبني" هنا تبدو وكأنها كلمة السر للعبور، وهي فعلاً هكذا، لأنك إن وضعت هذه الكلمة أمامك قبل اتخاذ أي قرار من قراراتك، صار لك نفع عظيم. فقبل أن تُقدم على شيء ما يجب أن تسأل نفسك: هل هذا الشيء سيبني أم لا، وهنا أتكلم عن كل صور البناء كالبناء الروحي والبناء النفسي والبناء الجسدي.
ثالثًا: أمام نفسه
إنه يكون إنسانًا متحررًا تمامًا من كل أنواع العبودية، سواء كانت عبودية لخطية ما أو لعادة ما، أو لشهوة معينة. وهنا وفي هذه الآية يضع الوحي الإنسان في مواجهة صريحة أمام نفسه، قبل أن تكون أمام الناس أو أمام الله حيث تقول الآية: "لكن لا يتسلط علي شيء"، أي لا أصبح عبدًا لشيء.
أحبائي، هذه هي الحرية التي في المسيح، "حرية مجد أولاد الله". فنحن في المسيح نعيش أحرارًا، ولنا مطلق الحرية إما أن نختار الصالح ونطلب من الله أن يمنحنا القوة بروحه القدوس القادر أن يعمل في إرادتنا وأعمالنا حتى نعمل الصلاح ونشبع قلبه، أو نحوّل نظرنا عن المسيح فيتلقفنا إبليس، ويسقطنا في الخطية، ويصعقنا بتجاربه.
أخي أختي، أصلي من أجلكم أن تعرفوا طريق الحرية التي في المسيح وتسلكوا فيه حسب دعوة الإنجيل، ملتمسين عون وقوة روح الله القدوس الساكن فينا.