من طبيعة الإنسان أن يذكر السيئات وينسى الحسنات، ولذلك فإن الرب يطلب من المؤمن أن يذكر.. وليس هناك وقت مناسب لذكر الكثير من الأمور أفضل من بداية العام الجديد. وتصلك هذه الرسالة في ديسمبر، ومعنى هذا أنه بعد أيام يُقبل العام الجديد.. وفي هذا الوقت بالذات عليك يا خادم الإنجيل أن ”تذكر“!
أذكر أمانة الرب معك
يقول إرميا النبي: "أُرَدِّدُ هذَا فِي قَلْبِي... إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ. هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ"
(مراثي إرميا 21:3-23).
ويقول الرب لبني إسرائيل الذين أخرجهم من أرض مصر، من بيت العبودية: ”وَتَتَذَكَّرُ كُلَّ الطَّرِيقِ الَّتِي فِيهَا سَارَ بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْقَفْرِ... فَأَذَلَّكَ وَأَجَاعَكَ وَأَطْعَمَكَ الْمَنَّ الَّذِي لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ وَلاَ عَرَفَهُ آبَاؤُكَ، لِكَيْ يُعَلِّمَكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الرَّبِّ يَحْيَا الإِنْسَانُ" (تثنية 2:8-3).
كان قصد الرب من الإذلال والجوع أن يُعلّم شعبه "أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان". قصد الرب أن يعلم شعبه القيمة العظمى لكلمته.. فيقرأونها، ويفهمونها، ويسلكون بنورها.
ويستمر الرب في تذكير شعبه بأمانته فيقول: "الرَّبَّ إِلهَكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ" (تثنية 14:8).
أرض مصر ترمز إلى العالم الحاضر الشرير، وهي المكان الذي يستعبد فيه الشيطان الإنسان.
"الَّذِي سَارَ بِكَ فِي الْقَفْرِ الْعَظِيمِ الْمَخُوفِ، مَكَانِ حَيَّاتٍ مُحْرِقَةٍ وَعَقَارِبَ وَعَطَشٍ حَيْثُ لَيْسَ مَاءٌ " (تثنية 15:8).
وهذه رحلة حياتنا، إنها رحلة في القفر العظيم المخوف، وفي هذا القفر حيات محرقة وعطش.. حيات من الأعداء الذين يحيطون بك ويريدون القضاء عليك.. وعقارب ترمز إلى لدغة العقارب التي تعذبك بإشاعات كاذبة ضدك.. وعطش إذ لا يوجد في القفر ما يروي نفوسنا وأرواحنا.
وقد كتب داود النبي وهو في برية يهوذا الكلمات: "يَا اَللهُ، إِلهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ" (مزمور 1:63)
ولكن ماذا عمل الرب في قفر رحلة حياتك؟!
× أخرج لك ماءً من صخرة الصوان.. فمن تجاربك الصعبة، أخرج لك ماء التعزية وراحة القلب ومن صخور الآلام أفاض في قلبك نبع السلام.
× الذي أطعمك المن في البرية الذي لم يعرفه آباؤك لكي يذلك ويجربك لكي يحسن إليك في آخرتك.
وليس هناك أفضل من أن يُحسن الرب إليك في شيخوختك، ولذا صلى كاتب المزمور: "لاَ تَرْفُضْنِي فِي زَمَنِ الشَّيْخُوخَةِ. لاَ تَتْرُكْنِي عِنْدَ فَنَاءِ قُوَّتِي" (مزمور 9:71). ونقرأ "اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو، كَالأَرْزِ فِي لُبْنَانَ يَنْمُو... أَيْضًا يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَامًا وَخُضْرًا"
(مزمور 11:92و14).
إنني وقد بلغت الثامنة والثمانين من عمري، حين أعدّد بركات الرب التي غمرني بها أردّد كلمات يعقوب من داخل قلبي قائلاً: "صَغِيرٌ أَنَا عَنْ جَمِيعِ أَلْطَافِكَ وَجَمِيعِ الأَمَانَةِ الَّتِي صَنَعْتَ إِلَى عَبْدِكَ" (تكوين 10:32).
فيا خادم الإنجيل أذكر أمانة الرب معك.
أذكر زلاتك وسقطاتك
ومَن من خدام الإنجيل لم يمر بلحظات ضعف وهزيمة روحية؟ "إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا" (1يوحنا 8:1).
قال الرب يسوع ليوحنا الرسول وهو في جزيرة بطمس: "اُكْتُبْ إِلَى مَلاَكِ كَنِيسَةِ أَفَسُسَ... أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَصَبْرَكَ، وَأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَحْتَمِلَ الأَشْرَارَ... وَقَدِ احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي وَلَمْ تَكِلَّ. لكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ: أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ الأُولَى. فَاذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى" (رؤيا 1:2-5).
إن الأمر الذي يهم الرب ليس هو قائمة خدماتنا، بل مقياس محبتنا.. فمحبتنا للرب أغلى في عينيه من خدمتنا. "اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ عَلَى قَلْبِكَ، كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ. لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ... مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ، وَالسُّيُولُ لاَ تَغْمُرُهَا" (نشيد الإنشاد 6:8و7).
في لقاء الرب بعد قيامته مع بطرس الرسول سأله ثلاث مرات "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟"
(يوحنا 15:21) وقد إجابه بطرس: "نَعَمْ يَارَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ" قال له الرب "ارْعَ خِرَافِي... ارْعَ غَنَمِي... ارْعَ غَنَمِي...
فالخدمة التي يكرمها الرب، هي الخدمة النابعة من محبتنا القوية له.. وإلا كانت خدمتنا "خشباً، عشباً، قشاً، ستحترق بالنار يوم استعلان يسوع المسيح.. ونخسر أجرتنا.
أذكر من أين سقطت؟ أذكر أسباب فقدان محبتك الأولى للرب؟ وعندما تعرف في محضر الرب سبب سقوطك.. ”تُبْ، وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى... وَإِّلاَّ“ فسيزحزح الرب منارتك من مكانها ويخبو نور خدمتك. فأسرع بتوبة حقيقية، واعترف بخطيئتك للرب. وقل مع ميخا النبي: "لاَ تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي، إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ" (ميخا 8:7).
واذكر كلمات يوحنا الرسول: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ" (1يوحنا 9:1).
أذكر نهاية خدمتك وجهادك
العبرة ليست بالبداية بل بالنهاية. "اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ" (عبرانيين 7:13).
يسجل بولس الرسول نهاية خدمته وجهاده بالكلمات: "فَإِنِّي أَنَا الآنَ أُسْكَبُ سَكِيبًا [كان السكيب خمراً تسكب على ذبيحة المحرقة أو ذبيحة وفاء نذر (عدد 1:15-15)]، وَوَقْتُ انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ [أي وقت رحيلي، أو حل قيودي قد حضر]. قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ [بمعنى جهاده في خدمة الإنجيل، وسعيه في ربح النفوس للمسيح، وحفظه للحق الإلهي المعلن في كلمة الله بلا تراجع أو تحريف وهو الإيمان الذي يسميه يهوذا "الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ" (يهوذا 3)]، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ" (2تيموثاوس 6:4-8).
لقد كتب بولس الرسول للقديسين في فيلبي قائلاً: "أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (فيلبي 13:3-14).
وجعالة دعوة الله العليا، هي الإكليل الذي كان بولس الرسول يجاهد لنواله.. وفي نهاية حياته تيقَّن من نواله، وقال: "وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ“ أي ضمنت أني سأصير ملكاً متوّجاً.
فيا خادم الإنجيل، أذكر أمانة الرب معك، أذكر زلاتك وسقطاتك، أذكر نهاية خدمتك وجهادك، وليباركك الرب ويحرسك، ويبارك حياتك وخدمتك.
أخوكم في الخدمة المقدسة،
القس لبيب ميخائيل