"وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ، فَأَعْطَى وَاحِدًا خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ. فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضًا وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ." (متى 14:25-18)
ضرب لنا الرب يسوع المسيح هذا المثل ليكون أنموذجًا رائعًا لرعاة الكنائس بصورة خاصة وللمؤمنين بصورة عامة. والواقع أن هذه الأمانات التي استودعها مالكُها عبيدَه هي رموز للدَّعوات والمواهب التي خصص بها الرب خدامه ورعاته الذين أوكلهم على رعيته ليعتنوا بها، ويشرفوا على الاهتمام بحاجاتها الروحية أولاً، وعلى توثيق وحدتها ونموّها، فيقودونها إلى مراعٍ خضرٍ بكل أمانة ومسؤولية. وأود هنا أن أشير إلى وزنة الأمانة في حقل رعاية الكنيسة وما هي أهميتها في نظر الله أولاً وفي اعتبار الرعية ثانية.
إن الرعاية في الدرجة الأولى هي دعوة إلهية وليست اختيارًا فرديًا كأية وظيفة أخرى. والحقيقة التي لا مَرِيَّة فيها أن كل مؤمن هو مدعوٌّ لعمل ما في خدمة السيد طبقًا للمواهب والمؤهلات التي أنعم بها الله عليه. والمبدأ الأساسي في هذه الدعوات على اختلافها وتباينها هو أن يقوم بها الفرد بكل أمانة لتمجيد اسم الرب وحده، فكم بالأحرى إن كانت هذه الدعوة هي دعوة الرعاية؟ وما هي المزايا التي يجب أن تتوافر في الراعي والتي تتوقّعها الرعية فيه؟ إنني في هذه السطور القلائل سأركّز على مزية أو وزنة الأمانة تجاوبًا مع المثل الذي ضربه المسيح ليكون مثالاً لنا في جميع خدماتنا الرعوية:
أولاً، من الملاحظ أن المسيح أشار أن صاحب الوزنات قد سلّم كلاً من عبيده الوزنات التي في طاقة كل عبد أن يتحمّل مسؤوليتها، لأن الله في علمه المسبق يعرف مقدار طاقة كل فرد من أولاده وما هي إمكانياته، فيلقي على عاتقه تنفيذ مطالب الدعوة. إن الله عادل في كل ما يطلبه منّا أن نقوم به ولا يعمد على إلزامنا بما لا طاقة لنا به، ثم يطالبنا بالنتائج. صحيح أن الله قادر أن يمنحنا القوة والعزيمة على القيام بأمور يتعذّر أحيانًا أن نتصوّرها. لكن هذه حالات خاصة تتوقّف في الدرجة الأولى على إرادة الله وحكمته. ولكن في الدعوات العامة، أي الدعوات التي كرّسنا الله لها، وأقامنا عليها، فإنه يمنحها لنا على قدر طاقتنا، وكل ما يطلبه منا هو أن ننجزها بأمانة ورضى ومحبّة. ولكن، لسوء الحظ، فهناك من دعوا أنفسهم لخدمة الرعاية من غير أن تكون تلك الدعوة صادرة عن الله.
تذكّرني هذه الحالة بقصة صديق لي التحق بالجامعة وعزم أن يتخصّص بحقل الطب. ولكن الرب كان قد دعاه لخدمة أخرى في حقل آخر غير الحقل الطبي، إلا أنه أبى أن يستجيب لدعوة الرب اعتقادًا منه أنه قادر أن يتخصص بأي موضوع يرغب فيه مع علمه الأكيد أن ذلك كان مخالفًا لإرادة الله. وزاده إصرارًا على موقفه ما يتمتّع به من قدرات عظيمة، وأقدم لذلك على الانسياق وراء رغبته الشخصية، وعلى الرغم من ذكائه، وجدّه، فإنه أخفق في مساعيه بطريقة أثارت دهشته وعجبه، واعتراه يأس عميق وخيبة أمل رهيبة.
وذات ليلة، وقف وجهًا لوجه أمام نفسه وتساءل عن الدواعي التي أدّت إلى إخفاقه؛ وهنا تجلّت له الحقيقة الساطعة: "أنت كنت تحارب مشيئة الله لذلك لم تنجح." وحالما أطاع دعوة الله باركه الله ببركات روحية ومادية واستخدمه بقوة لمجد اسمه القدوس.
فالاستجابة لدعوة الله هي أول مبدأ في خدمة الأمانة.
ثانيًا، أمانة الراعي في خدمته هو مطلب الرعية
عندما يقف الراعي على المنبر فهو يمثّل من دعاه إلى خدمته. لقد سلّمه الله وزنة الأمانة في خدمته وتوقّع منه أن يستخدمها بكل ما لديه من قوة وصدق وإخلاص، متحدّيًا جميع الضغوطات والمؤثرات الداخلية والخارجية وواضعًا نصب عينيه إرضاء الله ليس بدوافع شخصية، ولا لأسباب نابعة عن الأنانية، بل وفقًا لتعليم الكتاب وإرشاد روح الله القدوس في كل ما يقوله ويفعله. ولعلّ ما ورد في رسالة بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس عما يجب أن يتميّز به الخادم أو الراعي خير مثال يُحتذى به. يقول: "فيجب أن يكون الأسقف... صالحًا للتعليم... حليمًا، غير مخاصم، ولا محب للمال... ويجب أيضًا أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج..." أي بمعنى آخر، أن يكون مكرّسًا في خدمة الرب أولاً وفي خدمة الكنيسة ثانيًا، من غير أي تناقض بين الاثنين وإلا تكون الكنيسة قد انقسمت على ذاتها لأن ولاء الراعي آنئذ يصبح كمن يعرج بين الفرقتين، لذلك لا يجوز أن يحدث أي تناقض بين الخدمتين، فهو مسؤول أمام الله إذ عُهدت إليه وزنة الرعاية، ومسؤول أيضًا أمام الكنيسة في القيام بهذه الخدمة بـأمانة، كما دعاه إليها الرب.
ولا ريب أن الراعي يجب أن يجسّد المسيح في كل ما يقوم به من سلوك، ووعظٍ، واهتمامات روحية وجسدية، وأن تكون أمانته شعاعًا مضيئًا في حياة الكنيسة يتمثّل بها الأعضاء. وفي هذه الحالة نجد أن علاقة الراعي برعيته بفضل أمانته تكون علاقة محبة، وتفهّم وثقة، وليست مبنية على أساس يشوبه الشك، وعدم الرضى، والاغتياب والفرْض الذي يسيء إلى بنية الكنيسة.
ثالثًا، إن أمانة الراعي لها مكافأتان على الأقل: المكافأة الأولى هي المكافأة الإلهية. لاحظوا معي ما ورد في المثل الذي ضربه المسيح:
"وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيل أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا. فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا. قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ." (متى 19:25-23)
(أرجو الرجوع لمعرفة مصير العبد البطال في متى 24:25-30)
فمن الملاحظ هنا أن العبدين الأمينين اللذين تاجرا بوزنات سيدهما على الرغم من تفاوت قيمة الوزنات التي عُهد بها إليهما، نالا نفس المكافأة لأن التركيز المشدد كان على الأمانة وليس على الكمية المادية، وهذا ما سيحدث في يوم المكافأة والحساب. فالرب يكافئ الراعي والمؤمنين أيضًا على أمانتهم بما أوكلهم عليه.
ومن ناحية أخرى، فإن الرعية التي رأت في أمانة راعيها صورة حية عن التكريس الكامل لخدمة راعي الرعاة فإنها تجد فيه الراعي الأمين الذي تتمثّل به. وهذه مكافأة تفوق كل مكافأة أرضية أخرى لأنها فيها بركة سماوية، وغنى محبّة جسد المسيح الذي قدسه الفادي بدمه.