Voice of Preaching the Gospel

vopg

أيلول (سبتمبر) 2009

إن السيد المسيح شخص جاء إلى عالمنا وعاش على أرضنا قبل حوالي ألفي سنة، فقير بسيط... لم يكن فيلسوفاً، ولكن شوامخ الفلسفة والفكر تتضاءل أمام سموّ تعاليمه. لم يكن زعيماً سياسياً، ولا مُصلحاً اجتماعياً ولا صاحب مذهب اقتصادي، ولكن أشهر رجال السياسة والاجتماع والاقتصاد تتصاغر جميعاً أمام روعة تعاليمه. لم يخطّ كلمة ولم يكد يفعل في الظاهر شيئاً، ومع ذلك فما من قول عظيم في الدنيا إلا وفيه صدى لصوته، وما من عمل صالح إلا ومنه يستمد صلاحه. لم يشهر سيفاً، ولم يسيّر جيشاً، ولا قاد غزوة، ولا افتتح بلاداً، ومع ذلك فهو أعظم من الملوك والقواد والفاتحين! عنده يقف التاريخ كله، وبه تؤرخ أحداث العالم وإلى أن يزول. كاد يكون نكرة في زمانه، ولكنه منذ فجر الخليقة هو محورها، إليه مُتّجه اليهودية، وعليه تقوم المسيحية، وأشرف مكان يرفعه الإسلام، وبذكر اسمه تتشرف التوراة والإنجيل والقرآن جميعاً. ما من أحد على الأرض – وإن كان من غير أتباعه، أو من أشدّ خصومه – إلا وينحني أمام عظمة تعليمه وخلقه وسيرته. ذاك هو المسيح.


مصادر معرفة المسيح
ليس من شخص، على الإطلاق، كُتب فيه ما كُتب في المسيح، إذ هناك الملايين من الكتب والمجلات والموسوعات. ولكننا عمداً لن نتعدّى في دراستنا هذه المئة سنة الأولى بعد قيامة المسيح. حتى وفي هذه المدة فقط نرى المؤلفات كثيرة، فنشير بسرعة إلى بعضها، متوقفين قليلاً عند الأناجيل المقدسة فقط.
أ- مصادر غير مسيحية:
هناك مصادر عديدة غير مسيحية تتكلم عن المسيح، منها:
1- فلافيوس يوسيفوس المؤرخ اليهودي الذي عاش في الفترة (37-100) للميلاد يتكلم في كتابه "العاديات اليهودية" عن يسوع ومحاكمته أمام محفل الأمة المعروف بالسنهدرين أو السنهدريم.
2- سويتينيوس المؤرخ الروماني، يتكلم عن المسيح في مقطعين من كتابه "سيرة القياصرة الاثني عشر" عام (120) للميلاد، الأول في ذكر طرد المسيحيين من روما زمن الإمبراطور كلوديوس عام (51) للميلاد، والثاني في ذكر إخضاعهم للتعذيب على أيدي نيرون محرق روما ومتّهم المسيحيين بالحريق.
3- تاقيتوس المؤرخ الروماني الذي يذكر في "حولياته" – الفصل الخامس عشر من الكتاب الثالث (سنة 115) للميلاد- حادثة إحراق روما زمن نيرون، وما عُذّب به المسيحيون بسبب تلك التهمة. وفي هذا المجال يتطرق إلى مؤسس المسيحية، المسيح الذي أُسلم للموت على يد بيلاطس الوالي الروماني في اليهودية في عهد القيصر طيباريوس.
4- أفلينيوس الوالي الروماني على مقاطعة بيتينيا في آسيا الصغرى، في رسالة منه بتاريخ (111) للميلاد إلى الإمبراطور ترايانس، يستطلعه رأيه في ما يجب أن يفعل تجاه المسيحيين في مقاطعته، وقد كثر عددهم جداً فهل يواصل اضطهادهم، وجريمتهم أنهم يجتمعون في أيام معينة قبل بزوغ الفجر فينشدون الترانيم للمسيح، ويلتزمون بقسم ألا يأتوا جريمة ولا فاحشة ولا سرقة، ثم يجتمعون مساء ليتناولوا طعاماً عادياً لا إيذاء فيه لأحد.
نكتفي بهذه المصادر غير المسيحية من المئة سنة الأولى بعد قيامة المسيح، لنمرّ بسرعة إلى بعض المصادر المسيحية.
ب- مصادر مسيحية:
هناك مصادر عديدة أيضاً تتكلم عن المسيح منها:
1- مصادر غير قانونية: كثيرة هي المؤلفات المسيحية منذ أواخر القرن الأول للميلاد ومنها ما لم يرد فيها اسم المؤلف، ككتاب "الذيذاخي أو الديداكي" أو تعليم الرسل الاثني عشر. ومنها ما هو لمؤلفين معروفين بين آباء الكنيسة كرسائل أغناطيوس الأنطاكي وإكليمندس الروماني، أو منسوب إليهم زوراً مثل "رسالة إكليمندس الثانية إلى الكورنثيين". ومن البديهي أن محور هذه المؤلفات هو المسيح وتعاليمه. ولكننا نمر بسرعة لأن هذه الكتب – على قيمتها الكبرى أحياناً – ليست من الكتاب المقدس في عهده الجديد الموحى به.
2- المصادر القانونية: هي – إلى جانب الأناجيل الأربعة التي سنتكلم عنها بعد قليل – سفر أعمال الرسل، وإحدى وعشرون رسالة، وسفر الرؤيا، وهي جميعاً، وإن اختلف المؤلف والأسلوب، إنما تشكل شرحاً للعقيدة المسيحية وتطبيقاً لها في الكنيسة الناشئة. ولكننا نلتقط خلالها إشارات قيِّمة إلى بعض نقاط من حياة السيد المسيح أو من أقواله. وهذه الأسفار – على كونها مقدسة أي موسومة بطابع الوحي والعصمة – فإننا قلما لجأنا إليها في دراستنا هذه، لأن دراسة العقيدة وتطبيقها تقتضي أولاً معرفة صاحب تلك العقيدة، وهذه المعرفة إنما تتم بدراسة سيرته. وسيرة المسيح إنما نجد خطوطها الكبرى في الإنجيل.
الإنجيل والأناجيل
أ- الإنجيل: إن كلمة إنجيل هي لفظة يونانية الأصل وتعني البشرى أي الخبر المفرح. وأول ما استُعملت له هو بشرى الخلاص الذي أتى به المسيح، أي التعاليم التي تنطوي على حقائق تلك البشرى، ثم سيرة المسيح التي تُجسِّد تلك البشرى أمثل تجسيد. وكلمة الإنجيل، لم تعنِ في الأصل أي كتاب، بل هي البشرى نفسها ونقلها للآخرين. وقبل أن يدوَّن أي إنجيل، كان الإنجيل الشفهي، أي نقل البشرى شفهياً على لسان الرسل وتلاميذهم، قد انتشر في الإمبراطورية الرومانية كلها. لم يكتب يسوع كلمة، ولا طلب من صحابته أن يفعلوا ذلك، بل طلب منهم أن ينطلقوا إلى الخليقة كلها يحملون لها بشرى الخلاص (مرقس 15:16). وهكذا نشأت المسيحية وعاشت مدة دون أن يكون لها أي كتاب. فوحيها ليس في الدرجة الأولى وحي كتاب يُنزَّل حروفاً وكلمات، بل وحي شخص حيّ. فإن الله الذي كلّم الآباء قديماً بالأنبياء مراراً كثيرة وبشتى الطرق، كلّمنا نحن أخيراً بمن هو نفسه كلمة الله (عبرانيين1:1-2)، وهذا الذي سمعه الرسل، وما رأوه بعيونهم، وما تأملوه ولمسته أيديهم، به بشروا العالم ناقلين إليه إنجيل – أي بشرى - الرجاء والخلاص (1يوحنا 1:1-4).
وهذا "الإنجيل" الشفهي نجد موجزه وإطاره العام في خطب بطرس في مطلع الكنيسة (أعمال الرسل 22:2-24؛ 13:3-15)، وهو الذي نقله الرسل إلى أماكن تبشيرهم شفهياً، ثم اعتمده في ما بعد مَن دوّن مضمونه كتابة، وفقاً لمختلف الحاجات. وكانت الجماعات المسيحية الناشئة متعطشة إلى تلك البشرى، في وجهيها من أقوال يسوع وأفعاله في حياته. ولهذا بدأ البعض، إلى جانب التعليم الشفهي، يدوّنون بعض المذكرات مما يرون في حفظه وتدوينه فائدة لهم ولتعليم الراغبين في دخول الدين الجديد. وهكذا نشأت تحت رقابة الرسل بعض أخبار ومجموعات بسيطة مدونة أشبه ما تكون ببطاقات التوثيق أو المراجع، دون تصميم شامل أو تأليف واضح.
وما لبث أن شعر المؤمنون بضرورة التثبت من تلك المواد وتنسيقها لتبقى مرجعاً وثيقاً للجماعات المسيحية، بعيداً عن كل شبهة أو تلاعب أو تحريف. وكان لا بد من عمل ذلك في زمن الرسل أنفسهم والتلاميذ الآخرين، صحابة المسيح، الذي تلقوا البشرى وعايشوها وعاشوها قبل أن ينقلوها لغيرهم. أجل كان لا بد من العمل قبل أن تُغيِّب الأيام أولئك الشهود بتقدم السنين وخصوصاً بسيف الاضطهادات الذي كثيراً ما تعرّضت له كنيسة المسيح الأولى. فعمد البعض بوحي من الروح القدس إلى تدوين الإنجيل كتابة، فكانت الروايات الأربع التي نسميها الأناجيل أو البشائر، والتي ما تزال موجودة بين أيدينا.
ب- الأناجيل: ليس في المسيحية حقاً سوى إنجيل واحد، بالمعنى المذكور أعلاه، أي البشرى التي حملها إلينا المسيح، وجسّدها في حياته، ولقّنها في تعليمه؛ وبهذا المعنى لم يرد اللفظ إلا مفرداً في العهد الجديد بمختلف أسفاره وكذلك في القرآن الكريم. إلا أن نقل تلك البشرى وصل إلينا في روايات أربع تتّفق جوهراً وموضوعاً، وتتباين أحياناً في الظاهر، وفق مواهب الكاتب التأليفية، ووفق حاجات من يكتب إليهم. ولكن هذا التباين الظاهر، ما هو في الواقع إلا تكامل وتوافق تام، كما سيتبيّن لنا ذلك فيما بعد.
كاتبو الأناجيل
عندما نقرأ كتاب العهد الجديد من الكتاب المقدس نلاحظ أنه يبدأ بأربعة أناجيل تحمل أسماء كاتبيها. كما أن لفظة الإنجيل تُطلق أحياناً على العهد الجديد بكامله. والإنجيل الذي يحمل لنا بشرى الخلاص بالمسيح يسوع هو واحد، أما مدوِّنوه فأربعة هم: متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا. الأول والأخير بينهم من صحابة المسيح الاثني عشر. أما الثاني فهو تلميذ بطرس الرسول، وكَتب في عهده وتحت إشرافه؛ وأما الثالث فهو تلميذ بولس الرسول، وكتب أيضاً في عهده وتحت إشرافه.
1- متى: هو أحد الصحابة الاثني عشر أي أحد تلاميذ يسوع، كان موظفاً في كفرناحوم على الجباية (الضرائب)، فدعاه يسوع فقام وتبعه ولازمه طول حياته (متى 9:9-13؛ مرقس 13:2-17؛ لوقا 27:5-32). وبعد قيامة المسيح بشّر بالإنجيل في فلسطين وسوريا والعراق وفارس حيث أنهى حياته شهيداً. لقد كتب متى إنجيله في السنة العاشرة لقيامة المسيح، أي في مطلع العقد الرابع، وكتبه باللغة الأرامية – القريبة جداً من العبرية والعربية – وهي لغة الشعب التي كانت سائدة آنذاك في فلسطين والأردن وسوريا والعراق. وكتبه خصوصاً لبني قومه أي لليهود، وهذا ما يشرح اهتمامه بالنبوءات السابقة واكتمالها في المسيح، ومعرفته لجغرافية فلسطين وسياستها، ولعوائد اليهود الدينية والاجتماعية معرفة تامة. وبعد تشرد اليهود على يد تيطس الروماني سنة 70 للميلاد وتشتّتهم في العالم الروماني الذي كانت لغته الرسمية اليونانية، ترجم الإنجيل إلى هذه اللغة – وربما كان متى نفسه هو المترجم – وبهذه اللغة تناقلته الكنيسة، مثل سائر أسفار العهد الجديد التي كُتبت جميعها باليونانية.
2- مرقس: لم يكن من تلاميذ المسيح الاثني عشر، بل من التلاميذ السبعين، أي من أولئك الذين كانوا يتردّدون كثيراً على يسوع ويرافقونه، دون أن يلازموه دوماً كالرسل. بعد صعود المسيح رافق بولس الرسول وبرنابا في رحلتهما الرسولية الأولى سنة 44 للميلاد، ثم رافقه برنابا إلى قبرص من سنة 50 إلى 52 للميلاد، ثم نجده مع بطرس وبولس في روما في مطلع العقد السادس (أعمال الرسل 12:12-13؛ 5:13-15 و39؛ 1بطرس 13:5؛ فليمون 24؛ 2تيموثاوس 11:4). وبعد استشهاد الرسولين بطرس وبولس في روما رحل إلى الإسكندرية، مبشراً بالإنجيل إلى أن استُشهد هو أيضاً فيها سنة 68 للميلاد. أما إنجيله فقد كتبه حوالي سنة 63-64 للميلاد عندما كان في روما. وهذا الإنجيل يعكس تعليم بطرس في روما، فهو موجّه خصوصاً إلى المسيحيين من أصل روماني، ولذلك نراه يتوقف خصوصاً على ما يسترعي انتباه الرومان من مظاهر القوة والعظمة.
3- لوقا: إنه وثني الأصل أنطاكي المولد يوناني المنشأ. كان طبيباً ثم تتلمذ لبولس الرسول وصار معاوناً له في حمل البشارة، وبقي في روما أثناء أسر الرسول، وفيها كتب إنجيله في سنة 65 للميلاد. وبعد ذلك بقليل أصدر كتابه الآخر "أعمال الرسل". أما أواخر حياته بعد استشهاد بولس فلا نعلم عنها شيئاً أكيداً، وإن كان التقليد مجمعاً على أنه مات شهيداً. أما الإنجيل الذي كتبه فمُوَجّه خصوصاً إلى المسيحيين من أصل يوناني، وقد كانوا جاليات كبيرة في روما وسائر أنحاء الإمبراطورية، بالإضافة إلى بلاد اليونان نفسها الخاضعة لحكم روما. ولذلك نراه يستعمل في كتابته العقل والمنطق اليوناني، ويشدد على الإرادة والقلب اللذين بدونهما لا يكتمل الإنسان، واللذين بهما أيضاً ظهر عطف الله ورحمته ومحبته للإنسان، حتى سُمّي إنجيله أحياناً "إنجيل الرحمة".
4- يوحنا: هو ابن زبدي وأخو يعقوب، كان من أول الرسل الذين تبعوا يسوع، وأكثرهم قرباً إليه. كان يسوع دوماً يصطحبه معه أو يوفده في المهام الخطيرة مع تلميذيه بطرس ويعقوب، حتى عُرف بالحبيب أو "التلميذ الذي كان يسوع يحبه"، وهو الذي رافق يسوع حتى الجلجثة، وهو من بين الرسل أول من وصل إلى القبر في يوم القيامة... واسمه يملأ صفحات الأناجيل والقسم الأول من أعمال الرسل (وإن كان في إنجيله هو لا يذكر اسمه الخاص إلا تورية وفي النادر). وقد عاش يوحنا طويلاً، وشاهد انتشار الكنيسة في كل مكان، كما شاهد ظهور البدع وتفشيها. فكتب رسائله الثلاث وسفر الرؤيا والإنجيل المعروف باسمه – وقد كتبه سنة 95 للميلاد – رداً على تلك البدع، وتوضيحاً لما كان قد أغفله الإنجيليون السابقون.
صحة نسبة الأناجيل إلى أصحابها
إن الكنيسة المسيحية منذ نشأتها إلى اليوم لم تعرف سوى إنجيل واحد في رواياته الأربع التي ذكرنا، ورغم ما نشأ فيها من بدع، ورغم تعدد المناطق والشعوب التي دخلت في الدين الجديد من الشرق الأوسط بأسره إلى آسيا الصغرى (تركيا)، وقبرص، واليونان، وإيطاليا، وبلاد الغال (فرنسا)، وشمالي أفريقيا.. فالتقليد واحد لا يعرف إلا هذا الإنجيل الواحد وفي رواياته الأربع لأصحابها المذكورين آنفاً. ونكتفي ببعض الشهادات القديمة، نأخذها من مناطق مختلفة إثباتاً لما قدمنا.
1- في مصر: يقول أوريجانيس الذي عاش من سنة 185 إلى 254 للميلاد صاحب مدرسة الإسكندرية الشهيرة: "لقد خبّرنا الأقدمون أن الأناجيل أربعة، وهي دون سواها مقبولة بالإجماع في جميع أنحاء كنيسة الله المنتشرة تحت كل سماء. فالإنجيل الأول كتبه متى الذي كان من قبل عشاراً (جابياً للضرائب) ثم أصبح رسولاً ليسوع المسيح. كتبه بالعبرية لمنفعة اليهود الذين دخلوا في الإيمان. أما الثاني فكتبه مرقس كما سمعه من بطرس، والثالث كتبه لوقا لمنفعة غير اليهود، اقتباساً عن بولس. أما الأخير فهو إنجيل يوحنا" (أوريجانيس، في مجموعة ميغن للآباء اليونان. المجلد 20، العمود 581).
2- من شمال أفريقيا: ترتليانس هو أحد آباء الكنيسة الأولى، عاش من سنة 160 إلى 240 للميلاد. رغم انحيازه في آخر حياته إلى إحدى البدع المسيحية، فقد ظلّ يعلّم بوحدة الإنجيل في رواياته الأربع فقال: "أربعة أثبتوا لنا الإيمان في أسفارهم: اثنان من الرسل وهما متى ويوحنا، واثنان من التلاميذ وهما لوقا ومرقس" (ترتليانس: المرجع نفسه للآباء اللاتين. المجلد 2، العمود 363).
3- من بلاد الغال (فرنسا): إيريناوس أسقف مدينة ليون عاش من سنة 140 إلى 222 للميلاد، تلميذ بوليكربس أسقف إزمير الذي كان تلميذ الرسول يوحنا: "الأناجيل الموحاة أربعة فقط... وقد كتب الإنجيليون هذه الأسفار المقدسة وسلموها إلينا لتكون أساس معتقدنا وركنه في المستقبل. فنشر متى إنجيله للعبرانيين في لهجتهم، بينما كان بطرس وبولس يبشران في روما ويؤسسان الكنيسة. ونقل إلينا مرقس، تلميذ بطرس وترجمانه في إنجيله، الحقائق التي كان بطرس يبشر بها. أما لوقا رفيق بولس فكتب في إنجيله ما كان معلمه يبشر به. وأخيراً أصدر يوحنا إنجيله في أفسس من آسيا. ويوحنا هو التلميذ الحبيب الذي استحق أن يسند رأسه على صدر الرب". (إيريناوس: المرجع نفسه للآباء اليونان، المجلد 7 العمود 844-845).
صحة النصوص
 يبقى سؤالاً لا بدّ من طرحه: لقد تبيّن لنا أن نسبة الأناجيل الأربعة إلى أصحابها هي نسبة صحيحة بإسناد متواتر ووثائق تاريخية لا يرقى إليها الشك. فالإنجيل واحد، وروياته الموحاة هي الأربع المذكورة فقط، ولم تعرف الكنيسة غيرها منذ فجر المسيحية إلى اليوم. ولكن مع الإقرار بذلك كله، من يضمن لنا أن نصوص هذه الأناجيل لم تتبدّل أو تتحرّف، عمداً أو سهواً، عبر التاريخ؟
السؤال وجيه. وقبل الجواب عليه نلفت النظر إلى أن النصوص المقصودة هنا ليست طبعاً الترجمات المختلفة، بل النص اليوناني الأصلي الذي به كُتبت جميع أسفار العهد الجديد، بما فيه الأناجيل الأربعة، وقد ذكرنا سالفاً أن إنجيل متى نفسه كان منذ حوالي سنة 65 للميلاد قد ترجم إلى اليونانية وبها وصل إلينا مع سائر الأسفار. أما بالنسبة إلى الجواب نفسه، فنقولها بدون أي شك أو تردّد، إن النص الأصلي اليوناني للأناجيل هو هو منذ أول الكنيسة حتى اليوم.
لا شك أن المخطوط الأول الذي خرج من يد كل واحد من الإنجيليين الأربعة قد ضاع أو تلف بفعل الزمن والأحداث الطبيعية من زلازل وحرائق وحروب واضطهادات، إلى جانب هشّية وسائل الكتابة القديمة كورق البردي، وقلة مناعتها ضد شتى عوامل الفناء، كالرطوبة والتآكل والتفتّت، وما سوى ذلك. إلا أن هناك آلاف المخطوطات التي هي نسخ عن المخطوط الأول للإناجيل ونكتفي بذكر أشهرها.
1- نسخة بيزي المحفوطة في كمبردج: تحتوي على الأناجيل الأربعة – أعمال الرسل – قسم من رسالة يوحنا الأولى: القرن الخامس أو السادس للميلاد.
2- النسخة الأفرامية المحفوظة في باريس: تحتوي على العهدين القديم والجديد كاملين باليونانية: القرن الخامس.
3- النسخة الإسكندرية، المحفوظة في المتحف البريطاني بلندن: العهدان القديم والجديد باليونانية. سنة 325 للميلاد.
4- نسخة واشنطن: الأناجيل: القرن الرابع أو الخامس.
5- النسخة الفاتيكانية، المحفوظة في الفاتيكان بروما: العهدان القديم والجديد باليونانية: حوالي 300 سنة للميلاد.
6- النسخة السينائية، المحفوظة في المتحف البريطاني بلندن: العهدان القديم والجديد باليونانية. مثل الفاتيكانية في القدم، بل ربما أقدم منها.
7- بردية تشستربيتي، المحفوظة في دبلين بإيرلندا: أجزاء من الأناجيل وسائر أسفار العهد الجديد. حوالي سنة 250 للميلاد.
8- بردية بودكر، المحفوظة في جنيف بسويسرا: فيها إنجيلا لوقا ويوحنا وبعض الرسائل حوالي سنة 200 للميلاد.
9- بردية جون رينلد المحفوظة في مانشستر بإنكلترا: فيها إنجيل يوحنا، وترتقي إلى حوالي سنة 120 للميلاد.
هذه بعض أمثلة على نسخ الأناجيل تعود بنا في التدرّج الزمني من أوائل القرن السادس إلى أوائل القرن الثاني، ونجدها كلها في مختلف أزمنتها وأماكنها متوافقة في ما بينها مع النصوص الرسمية (اليونانية) التي لا تزال بين أيدينا حتى اليوم. فهل بعد من إمكانية لأية شبهة حول صحة هذه النصوص وسلامتها من أي تلاعب أو تحريف؟
وهناك اعتبار يفرض نفسه: نرى مثلاً أن المخطوطات التي يعتمد عليها العلماء لبناء تاريخ الإمبراطورية الرومانية كله هي مخطوطات قليلة (لكبير المؤرخين تاقيتوس مخطوط واحد ومتأخر). ومع ذلك لا يستطيع أحد أن يطعن في صحة العلم المبني عليها. أما الأناجيل فمخطوطاتها لا تُحصى، وكلها تلتقي في شهادة واحدة على صحة نصوصها. وإن كانت المسافة الزمنية بين المخطوط الأصلي المفقود، وأقدم نسخه الواصلة إلينا حالياً هي على ما ذكرنا أعلاه، فحسبنا أن نذكر – على سبيل المقارنة – أن تلك المسافة بين كبار المؤلفين الأقدمين (من أمثال هوميروس وأوريبيذس وسوفوكليس وأخيل وأرسطوفانس وتوسيديدس وأفلاطون وذيموستينوس وغيرهم) وأقدم مخطوط معروف لمؤلفاتهم تتراوح بين اثني عشر وستة عشر قرناً. فأين نحن من وضع الأناجيل التي رأينا بعض نسخها لا يفصل بينه وبين المخطوط الأصلي أكثر من خمس وعشرين سنة، كالبردية رقم 9 أعلاه لإنجيل يوحنا. وما زالت اكتشافات علم الآثار والمخطوطات ترفد كل يوم معلوماتنا بمعطيات جديدة تعززها وتزيدها تأكيداً.

المجموعة: 200909

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

477 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
11577208