أيلول (سبتمبر) 2009
رأينا في المرة الماضية أن الرسول بولس كتب للمؤمنين في فيلبي قائلاً: "اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا. لِيَكُنْ حِلْمُكُمْ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ. اَلرَّبُّ قَرِيبٌ" (فيلبي 4:4-5). ورأينا أن الرب يفرح بنا، والرسول بولس كان فَرِحاً مع أنه كان في سجن روما. كذلك أوصاهم أن يكون حلمهم، أي وداعتهم ولطفهم وصبرهم، معروفاً عند جميع الناس، وشجعهم بالقول "الرب قريب".
ولكن ماذا يعمل المؤمن إذا كانت الظروف تعمل ضدّه؟ كيف يفرح؟! الجواب هو فيما يلي:
"لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ" (عدد 6).
"لا تهتموا بشيء"، لا تعني عدم المبالاة، بل تعني عدم السماح للهمّ والقلق أن يتسرّب إلى قلوبكم. والمسيح استخدم نفس هذا التعبير في موعظته على الجبل فقال: "لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ" (متى 25:6). ولكن للأسف، هذه هي الأشياء التي يهتم بها الناس، وأحياناً يتشاجرون بسببها أو يستخدمون الغشّ والطمع. ولكن هذا لا يليق بالمؤمن، فقد شجّعنا المسيح بالقول: "لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا" (متى 32:6). ولذلك نصحنا قائلاً: "فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ"
(عدد 34). من المهم أن نفهم أن كلمة "لا تهتموا" لا تعني عدم الاكتراث بل عدم القلق. تعني أن لا نضطرب، ولا نرهب، ولا نسمح للخوف أو اليأس أن يتسربا إلى قلوبنا. بل نعلم يقيناً أن لنا باب للنجاة إزاء هذه الظروف، هو عرش النعمة الذي ينصحنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين بخصوصه قائلاً: "فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ" (عبرانيين 16:4). لذلك بعد أن قال "لا تهتموا بشيء" قال "بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ".
"في كل شيء"، أي الأمور الكبيرة والصغيرة، الضيقات المالية، أو الصحية، أو النفسية، في السراء، والضراء، وكيفما كانت الظروف... فإن ملجأنا وصخرنا وحمانا هو الرب يسوع المسيح، الذي نأتي باسمه إلى عرش نعمة الله.
"بالصلاة والدعاء مع الشكر". الصلاة هي التحدّث مع الله أبينا، وقد نصحنا المسيح قائلاً: "يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ" (لوقا 1:18). وقد علّمنا أن الصلاة هي الوسيلة التي عيّنها الله لكي ننال ما نحتاج إليه إذ قال: "اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ" (متى 7:7-8).
والدعاء هو الطلبة الحارة المصحوبة بالشعور بالحاجة. أي أن لا تكون صلواتنا مجرد ترديد كلمات بفتور، بل تكون نابعة بحرارة من أعماق قلوبنا، نظراً لأهمية ما نطلبه، وما نحن في حاجة شديدة إليه. سواء كانت بخصوص خلاص نفس عزيزة، أو للانتصار على خطيئة، أو بسبب مرض أو احتياج مالي. كذلك نصحنا الروح القدس أن تكون صلاتنا ودعاؤنا مصحوبين بالشكر، ولهذا قيمة كبيرة! فحين أطلب من شخص أن يقوم لي بخدمة، وأنا واثق أنه سيعملها فإنني أطلب وأشكره في نفس الوقت، فالصلاة المصحوبة بالشكر هي صلاة بإيمان، إيمان بأن الله يعرف ما هو الأفضل لنا، وأنه "قادر أن يفعل أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر". من يصلي بشكر لن يكون متذكّراً أو غاضباً بل واثقاً من محبة الله.
"لتُعلم طلباتكم لدى الله". لا يقول لكي يعرف الله احتياجاتكم، فهو يعرفها قبل أن نطلبها، وإنما لكي تُعلم، أي لتُقَدَّم له، ليُعلن عنها أمامه. لماذا؟ لأنه يُسرّ بأن يسمعنا نقدمها له. إن الله يحب أن يعطي، ولكنه يحب أيضاً أن نطلب منه. قال المسيح: "اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً" (يوحنا 24:16). إذاً، في كل ظروف الحياة علينا بالصلاة والدعاء مع الشكر. نحن جميعاً نواجه مواقف في هذه الحياة تحيّرنا ولا نعرف ماذا نعمل، ولذلك نحتاج إلى الحكمة النازلة من فوق. فكيف نحصل على هذه الحكمة؟ نجد الجواب في يعقوب 5:1 "وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ".
ومتى وجهنا طلباتنا إلى الله بالصلاة والدعاء مع الشكر، تكون النتيجة الأكيدة هي: "وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (فيلبي 7:4). ليتنا نتأمل في عظمة هذا الوعد الإلهي، "سلام الله"، أي مصدره وضامنه هو الله نفسه. فهو ليس سلاماً مبنياً على وعد بشري، بل على وعد إلهي أكيد، وهو سلام كامل لا يعكر صفوه أي قلق أو شك. وهذا السلام الإلهي يصبح حارساً لقلوبنا وأفكارنا. حقاً، ما أسعد المؤمن الذي عنده هذا السلام! وكم يجب أن نشكر الله الذي يمنحنا هذا السلام في عالم يقول عنه الكتاب المقدس "وطريق السلام لا يعرفوه" (رومية 17:3). من الواضح أن هذا الوعد له علاقة وثيقة بالفرح في الرب كل حين.
ولكن هناك شرط مهم لمن يريد أن يفرح في الرب كل حين وأن يتمتّع بسلام الله الذي يفوق كل عقل، وهو أن تكون أفكارنا ومشغولياتنا في الطريق السليم، وهذا ما نتعلّمه في فيلبي 8:4-9 "أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌّ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا".
"كل ما هو حق"، يعني أن نتجنب كل ما هو كذب أو مبالغة في الكلام، سواء في أفكارنا أو في كلامنا مع الناس أو عن الناس.
"كل ما هو جليل"، عكس كل ما هو دنيء وخسيس. وليست هناك أفكار جليلة مثل التفكير في ربنا يسوع المسيح وقداسته وجلاله. فالقلب الذي يمتلئ بالرب يسوع المسيح، يجعل كلامنا جليلاً لأنه من فضلة القلب يتكلم الفم.
"كل ما هو عادل"، أي نكون عادلين في أفكارنا وفي حديثنا عن الآخرين. كم من المرات يُظهر الإنسان الظلم حين يتكلم عن شخص أساء إليه. ولكن هذا لا يليق بالمؤمن، وخصوصاً إذا أراد أن يفرح في الرب.
"كل ما هو طاهر". ما أحوجنا إلى هذه النصيحة ونحن محاطون بعالم نجس. أصبحت النجاسة علنية في حديث الناس، في وسائل الإعلام، وفي وسائل التسلية. لا مجال للأفكار الدنسة أو التطلع إلى صور خليعة أو مراقبة أفلام قذرة. لنتذكر قول الرب: "كونوا قديسين لأني أنا قدوس". فمجرد الاستماع إلى "كلام السفاهة والهزل التي لا تليق" يترك تأثيراً مضرّاً بالمؤمن ويحرمه من الفرح في الرب كل حين.
"كل ما هو مسرّ"، وما أكثره في كتاب الله المقدس، يجب أن يكون موضوع تفكيرنا ويظهر في كلامنا فيجلب لنا وللمستمعين السرور والفرح الحقيقي. إن مؤمناً مثل هذا يكون بركة للآخرين.
"كل ما صيته حسن"، هو عكس ما يشوّه سمعة الآخرين. أما الحديث أو التفكير فيما صيته رديء فهو مضرّ للمتكلّم وللسامعين، وقد يسبب مشاكل يصعب حلها بعد ذلك.
"إن كانت فضيلة وإن كان مدح ففي هذه افتكروا". هذه هي الأفكار السامية. وهذه هي الحياة المسيحية الحقيقية. لذلك يجب أن لا نطلق العنان لأفكارنا لتذهب حيثما أرادت الطبيعة البشرية الساقطة، بل الأفكار التي تعلمنا إياها هذه العبارات الجميلة.
"وَمَا تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَتَسَلَّمْتُمُوهُ، وَسَمِعْتُمُوهُ، وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ، فَهذَا افْعَلُوا". لم يكن لائقاً بالرسول بولس أن يعطي هذه النصائح لو لم يكن هذا سلوكه هو. وفي هذا درس مهم لنا. فمن أراد أن يساعد الآخرين على التصرف الحسن يجب أن يكون تصرفه هو حسناً. بذلك يمكنه أن يشجع الآخرين على الفرح في الرب وحياة الإيمان والبر.
"وإله السلام يكون معكم". في عدد 7 تكلم عن سلام الله، ولكن هناك ما هو أعظم من العطية، وهو المعطي نفسه، إله السلام.
الخلاصة، هي أن الرسول بولس يحرضنا على أن نفرح في الرب كل حين وأن نكون حلماء عالمين أن الرب "ليس عن كل واحد ببعيد". وأن لا نقلق بل نقدم طلباتنا لله لكي يكون سلام الله حارساً لقلوبنا. وأن نفكر دائماً الأفكار الطاهرة المرضية عند الله. هذه هي الحياة المسيحية الحقيقية، وهي الحياة التي يريدها الله لنا نحن المؤمنين.