تموز (يوليو) 2006
قصة الخليقة كما دونها موسى النبي تعلن عن خلق الله لأبوينا الأولين في حالة الطهارة، وإسكانهما في جنة عدن، تحيط بهما المناظر الجميلة وتغنيهما الخيرات الجزيلة. وكانا يتمتعان بحضور الله المتكرر وباستماع كلامه الطيب المعزي. كما كانت لهما في ذلك المكان البهيج راحة النفس ومسرة القلب، وقد سلطهما الله على نباتات الجنة وثمارها وعلى بقية الخلائق من حيوان يدب على الأرض وطير يحلق في الجو وسمك يسبح في لجج المياه.
وفي هدأةٍ من النهار جلست حواء تتحادث مع الحية التي قال الكتاب إنها كانت أجمل حيوانات الجنة. ولكن حواء لم تستطع أن تكتشف الخدعة التي اختبأت خلف ذلك الجمال؛ وقد أكثرت الحية من زيارتها مدفوعة من الشيطان الذي استهدف إفشال خطة الله نحو هذا المخلوق الجديد ”الإنسان“، وإفساد العلاقة بينه وبين إلهه وتلقينه التمرّد والكبرياء الأمور التي كانت سبباً لسقوطه هو وطرده من مقامه الرفيع الذي كان له سابقاً— آملاً أن يزلق آدم وحواء في نفس الهوة التي انزلق فيها.
قد يقول قائل: كيف سمح الله للشيطان أن يؤثر على خليقته التي أحبها؟ إن مجمل التعاليم والحوادث المذكورة في كل أسفار الكتاب المقدس تعلن عن الله كالإله الكامل، وإحدى كمالات الله ”الحرية“ فهو حر في ذاته وقد منح الحرية لجميع الكائنات التي أوجدها لكي لا يترك مجالاً لكائن ما ليطعن في كماله أو يوجّه ملامة لجلاله. فكانت حرية الإنسان نابعة من حرية الله وإرادته وقراراته يجريها دون ضغط أو إكراه.
ومن سفر التكوين نفهم أن الشيطان كان داخلاً ومتمثلاً في الحية. ”وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله“ (تكوين 1:3).
وهذا يأتي بنا إلى سؤال آخر: لماذا خلق الله الحية على تلك الصورة وأعطاها مجالاً بالقرب من آدم وحواء؟ بل كيف سمح الله للشيطان باستخدام إحدى مخلوقاته كوسيلة لإسقاط آدم وحواء؟
كذلك نرى أن الله في كماله ”عادل“ فهو لم يحجب حق التحرك وحرية التصرف حتى عن ذلك المخلوق الساقط ”إبليس“ الذي أصبح عدواً لله. إضافة لذلك فإن في اللاهوت أسراراً وخفيات كثيرة لا يترتّب لنا كبشر من طين أن نعلمها جميعاً لأنها في صلب خطة الإله العظيم الذي علت أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. لذلك فما علينا إلا أن نلجأ إلى نصوص الكتاب المقدس ونأخذها كما هي، حيث سمح لنا الله أن نعلم من أسراره ما هو معلن فيها فقط. وذلك مفاده أن الحية خدعت حواء بمكرها وأثارت فيها روح الكبرياء وحب المعرفة ودفعتها للتمرد على الوصية الإلهية والشك في صدق مقاصد الله. ”فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل... فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل“ (تكوين 6:3). ”وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم وقال له: أين أنت؟“ (ع 8 و9).
لقد كان ذلك النداء صرخة إلهية اهتزت لها أركان الجنة وتزعزع المكان وكل ما فيه. وكان نداء عجيباً من إله مساءٍ إليه إلى مخلوق مسيء، وانطوى ذلك النداء على عدة معانٍ:
1- معنى العتاب
فكأن الله يقول لآدم أين أنت يا من أعطيتك هذا المقام الرفيع وقرّبتك إليّ وفضّلتك على جميع مخلوقاتي؟ لقد أعطيتك كل ما في الجنة ومنعت عنك ثمر شجرة واحدة لخيرك وسعادتك ولكنك تجاوزت وصيتي ورميت بكلامي خلف ظهرك وفعلت ما لا يسرني. سمعت لعدوي وتعديت على كرامتي فوصلت إلى هذه النتيجة المخزية حيث شعرت بالعري واختبأت لأنك لم تعد تجرؤ على مواجهتي.
2- تلويح بالعقاب
وكأنه يريد أن يقول له: هل تعتقد أن هناك مكاناً في الأرض يستطيع أن يخفيك عن وجه القدير، أيها المهمل لصوت الله والمتناسي لتحذيراته الرهيبة؟ كيف لم تردعك وصيتي التي تقول ”لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت“. وقد صدّقت قول العدو ”لن تموتا“؟ ألا تدري أن عدالة السماء لا تتراجع وأن سلطانه وقدرته سيبقيان سائدين رغم الأفكار الباطلة والأقوال الخادعة الكاذبة؟!!
3- دعوة إلى الإياب
فإلى جانب التهديد بقسوة العقاب أظهر الله في بحثه عن آدم وحواء رحمة ودعوة لهما بالرجوع إليه ورتّب بحكمته ومحبته تدبيراً فورياً لكي لا يهلكا سريعاً تحت ضغط الحزن والخوف، فقد كان لهما في منظر العري أول عذابات الضمير، فصنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما. وكانت تلك أول ذبيحة عملها الله لخلاص الإنسان لكي يستره من عريه بجلدها، ويكفر عن موته لموتها، فكانت بذلك أول رمز لذبيحة الدهور الرب يسوع المسيح الذي صار فدية عن جميع الخطاة. وقد وعد الله بذلك في قوله للحية: ”وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه“ (عدد 15). وبالمسيح تم الوعد لأنه هو نسل المرأة الذي سحق رأس الحية بالصليب.
وليس معنى قوله تعالى ”أين أنت؟“ باستفسار عن المكان، لأن الله يعلم كل شيء ولا يخفى عليه أمر يكشف أستار الظلمة وعنده يسكن النور، ولكنه يعني بذلك البحث عن كل فرد من بني آدم ويقول:
أين أنت في مقياس الطاعة لوصايا الله والخضوع لأوامره؟ فهل تمردت وعملت بمشورة إبليس واختبأت في وسط أشجار التجاهل والهروب، وخطت لنفسك كأوراق التين براً ذاتياً، وقد قدم الآب الابن السماوي كفارة لخطاياك لكي يستر عريك ويضفي عليك من نعمة قداسته؟
وأين أنت في مقياس الأمانة على ما استودعك الله من مواهب؟ فقد أعطانا صحة الجسد لكي نستخدمه في سبيل طاعته لا في الشرور والمفاسد، ومنحنا نعمة العقل لكي نقدّر ألطافه وإحساناته علينا، لا لكي ننكر فضله ونجحد مراحمه. وأعطانا احتياجات النفس والجسد لكي نكون شاكرين في كل شيء. وأعطانا بيوتاً وعائلات لكي نحدثهم عنه ونعلّمهم بأنه هو السيد الوحيد الحق وهو موضوع عبادتنا وخضوعنا.
وأين أنت في مقياس المحبة لله الذي أحبك وبذل ابنه الوحيد لأجل خلاصك؟ ”لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا“، و”نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً“ (1يوحنا 19:4).
وأين أنت في مقاييس السماء؟ فربما تكون ممتازاً في المقاييس الأرضية ومقبولاً جداً في المجتمع بالعلم، والجاه، والغنى، والعلاقات البشرية. فآدم الذي حصل على معرفة الخير والشر ربما أصبح له اعتبار أكبر بمقاييس الأرض، ولكنه أصبح ناقصاً بمقاييس السماء، فطُرد من الجنة وعوقب بالشقاء والتعب والألم والموت.
لقد أضاع آدم الأول فردوسه وفردوسنا، لأننا كنا في صلبه حين أخطأ، وقد ورثنا خطية العصيان مع حب المعرفة، وورثنا الإرادة الشريرة والطبيعة الفاسدة، ورثنا الأرض التي نطق الله عليها باللعنة!
ولكن المسيح له المجد ردّ لنا اعتبارنا إذ أخذ اللعنة عنا فصار لعنة لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه.
فتأمل قارئي العزيز بهذا التدبير العجيب؛ تدبير النعمة الإلهية الفائقة، الحكمة التي كان دافعها الوحيد محبة الله للإنسان، واذكر أن الرب لا يبرح أن يبحث عنك حينما تبتعد عنه، ويناديك ”أين أنت؟“ ذلك النداء العجيب من الإله المحب وهو دائماً قريب.