أذار (مارس) 2006
ما هي حكمة الله في آلام البشر؟!
إن كثيراً من آلامنا يمكن تفسيرها وتعليلها ومعرفة ينابيعها. فمشكلة الفقر مثلاً، ليست المسئولية فيها على الله، بل إن كثيراً من الفقر المتفشي في معظم بلدان الدنيا يعود إلى نقص في النظم الاجتماعية والاقتصادية ـ أو إلى جشع الأغنياء وأنانيتهم، وخلو قلوبهم من الرحمة على بني الإنسان إخوتهم، فهم يملكون الذهب ويكنزونه ويتركون إخوتهم يتضورون جوعاً وعرياً.
أذكر بهذه المناسبة قصة غلام سلم حياته للمسيح وكان غلاماً مسكيناً يرتدي ثياباً رثة، فقابله صديق غير مؤمن وتهكم عليه قائلاً: اسمع يا وليم. ألا تطلب من المسيح رداء جديداً يليق بكرامتك؟
وهنا أجابه الغلام في جرأة: "إن المسيح ليس مسئولاً عن هذا لأنه أوصى إخوتي الأغنياء أن يستروا عريي وهم قد نسوني، فالمسئولية ليست على المسيح مخلصي بل على إخوتي".
وعلى هذا القياس يمكننا القول إن كثيراً من الآلام تقع مسئوليتها على البشر. فالنظم الاقتصادية هي المتسببة في آلام الفقر، والآباء النجسون هم السبب المباشر في أمراض أولادهم الوراثية التي تتسبب عن النجاسة. واللصوص، والخداعون، والمراؤون هم علة آلام كثيرة في هذه الأرض.
لكننا مع هذا لا نستطيع أن ننكر وجود تلك المآسي التي لا يد للبشر فيها، والتي تحير عقول المفكرين من بني الإنسان. وسأقدم للقارئ الكريم بضعة صور من الأحداث التي تقع للناس، تملأ العقل الإنساني حيرة وأسى فيقف عاجزاً عن معرفة حكمة الألم في الحياة.
الحادث الأول حدث أثناء خدمتي لله في مدينة ملوي. فقد كان إلى جوار منزلي عائلة لها ابن حدقة عينها من الله. وكان ذلك الولد يذهب يومياً بالقطار إلى مدينة المنيا إذ كان طالباً بالمدرسة الثانوية هناك. وحدث ذات يوم أن سقط بين القضبان الحديدية وهشمه القطار تهشيماً. ذهبت لتعزية والده الذي برّح به الألم وبدأت أتحدّث إليه عن حكمة الله.. وهنا قاطعني الوالد الحزين قائلاً: "أين هي حكمة الله في موت ولدي؟ لقد صلى قبل خروجه طالباً حفظ الله وعنايته، لكن الله سمح له أن يموت هذه الميتة الرهيبة.. فأين هي حكمة الله؟!"
الحادث الثاني قصّه أحد الرعاة المصريين في كتاب له أنقله كما جاء فيه، قال: حدثنا أحد المرسلين في بلاد الهنود، قال: هجمت الدفتيريا على بيتين في بلاد الهند فأصابت ولداً في كل منهما. فاستخدم الأطباء كل ما وهبهم الله من حكمة وما أعده العلم من معدات لمطاردة هذا الداء العضال، فشُفي أحد الولدين ومات الآخر. أما الولد الذي عاش، فله خمسة إخوة، وأما الذي مات فهو حفيد وحيد لشيخين هدهما الزمن. فهل نعجب إذا وقف هذا الجد ذاهلاً ووقفت بجانبه شريكة حياته مبهوتة، ونطق كلاهما بلسان حالهما بعد أن انعقد لسان مقالهما قائلين: أين حكمة الله؟
أما الحادث الثالث فهو مأساة محيرة حدثت لعائلة كانت تجاور بيتي، وكانت العائلة مكونة من جد شيخ قد زاد عمره عن المئة سنة، ووالد فاقد البصر لا يسير في الطريق إلا ومعه رجل آخر يرشد خطاه، وابن شاب لهذا الوالد الأعمى... دخلت الحمى التيفودية إلى ملوي، وغزت من البيوت التي غزتها هذا البيت، وصوبت هدفها إلى جسد الشاب الوحيد الذي كان عكازاً لجده الشيخ وبصراً لوالده الأعمى، واستمر المرض ينهش في جسد الشاب المريض رغم محاولات الأطباء إلى أن قضى على حياته ومات.
وهنا أذكر حادثاً رابعاً قصّه طبيب مشهور من اختبارات حياته، قال: "كنت أعالج أسرة مكونة من زوج وزوجته وشقيقها. وكان الزوجان مشلولين من زمن بعيد. وكانت شقيقة الزوجة موفورة الصحة، تقوم على خدمتها، ثم جاء دور "الحمى الإسبانيولية" في الحرب الماضية، فأصيب بها ثلاثتهم وما كدت أبدأ معالجتهم من هذه الحمى حتى فوجئت بالشفاء التام للزوجين المشلولين اللذين قضيا سنوات عدة لا يفارقان الفراش، بينما توفيت شقيقة الزوجة، دون أن تمرض أكثر من أيام". فما هي حكمة الله في هذا الحادث العجيب؟
ولنضف إلى هذه الحوادث، آلام الأطفال الأبرياء الذين يقضون بعد عذاب طويل في أمراض حادة مؤلمة، وآلام أولئك القديسين الذين ألقى بهم الأشرار في أتون الألم بلا ذنب كيوحنا الذي أُرسل منفياً إلى جزيرة بطمس بأمر الإمبراطور دومتيان، لا لشيء إلا لأنه كان يعظ الناس بإنجيل النور والحق والحياة، وكيوسف الذي زُجّ به في سجن من سجون مصر لأجل تهمة كاذبة ألصقتها به امرأة مستهترة.
جاءتني ذات يوم فتاة تعسة تشكو إليّ من معاملة والدها، وبدأت تقص عليّ قصص تصرفاته الآثمة والدموع في عينيها. وبعد أن انتهت من سرد قصصها المؤلمة المخيفة التفتت إليّ وقالت: "لماذا سمح الله أن أولد في بيت كهذا؟
والإنسان المتأمل يردد متسائلاً: ما هي حكمة الله في آلام كهذه الآلام؟ وليس عند الشخص المفكر الذي يعيش بدون إيمان في الله سوى ردّ واحد هو أن يقول: "إن زمام الحياة قد أفلت من يد الله، فأصبحت حياة الناس في يد الصدفة تسوقها كيف تشاء".
لكن إجابة كهذه، هي إجابة العقل المحدود الضعيف لأننا في واقع الأمر لا نعرف سر الألم إذ ليس في إمكاننا أن نرى قصة الحياة كاملة، ولا نستطيع أن نعرف القصد الإلهي في كل حادث يحدث لنا، كما أننا لا نستطيع أن نرى الكون بأكمله، ولذا فنحن لا نرى فيه إلا الجبال والوديان.
حدثنا شاعر جليل عن نملة سمعت كثيراً عن جمال إلاهة الجمال فينوس فذهبت لترى ذلك الجمال، لكنها لم تستطع أن تراه دفعة واحدة. صارت تتسلق وجه فينوس لكنها لم تقدر أن تدرك ما فيه من جمال، وعندئذ خرجت صاخبة غاضبة على الآلهة التي خلقت هذه الخليقة الشوهاء، تماماً كما يفعل الكثيرون من الذين لا يستطيعون إدراك حكمة الله في الحياة فيجدفون ويتذمرون على إله السماء.. وإليك ما قاله الشاعر العظيم الذي وصف هذا المنظر الفريد.
"دخلت فينوس الغابة الإلهية البديعة عند الفجر لتستحم، فضفرت غدائرها حول رأسها شبه إكليل، وغمرت جسمها الوردي العجيب في حوض بلوري مملوء من ورود الجنان، ولما فرغت من عملها خرجت من الحوض واستلقت على بسط الأعشاب السندسية وغرقت في سبات عميق.
"ومر بها إله صغير يحمل إلى سيده الجبار جوبتر قهوة الصباح فبهرته وخلبت لبه وصرفته عن عمله.
فقضى برهة يتأمل ذلك الهيكل البديع الفخم غير آبه لما ينتظره من شديد العقاب.
في أثناء ذلك كانت نملة تدبّ على الوجه الجميل الصبيح فتصعد الأنف، ثم تهبط منه، وتدخل الأذن فتتيه في منعطفاتها، ثم تخرج منها ساخطة مغضبة، لأن الآلهة تخلق مثل هذه الإلاهة الشوهاء التي لا تناسق فيها ولا جمال".
هذه هي الصورة التي رسمها الشاعر الناثر، وهي توضّح لنا هذه الحقيقة وهي أن العقل البشري المحدود قاصر– كتلك النملة – عن أن يرى تناسق هذا الكون الجميل، وحكمة الله في آلام الناس. قال الرب يسوع لبطرس في مناسبة ما: "لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد" (يوحنا 7:13). ويقول بولس الرسول: "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت" (1كورنثوس 12:13).
فإلى أن يأتي الكامل، ربنا يسوع المسيح، فلنستمر واثقين في الرب حتى إذا كنا نجتاز بحر الآلام، ووادي الدموع.