أيلول (سبتمبر) 2006
ماذا حدث لعالم اليوم؟ أتراه عاد إلى العصور الوسطى؟ أم تراه رجع القهقرى إلى العصور الحجرية الغابرة، أي إلى ما قبل الحضارة والتقدم؟ أهذا هو إنسانُ الألفية الثالثة؟ أهذا هو تفكيرُ مَنْ صار يركبُ الفضاء ويمتطي السحاب، يشنُّ الحروب ويُنزل جامات الغضب على أخيه في الإنسانية من أجل أصغر الأسباب أو أتفهها؟! وباسم الحفاظ على سلامة الإنسان يقتل الإنسانُ أخاه ويدمِّر ويخرِّب فلا يسلمُ شيء من حمم نيران المعارك، ويموت الشيخُ والصغير سواء، والنساء والأطفال، ويَنفِقُ حتى الحيوان إلى جانب الإنسان.
يعتصر القلب من الألم حين يشاهد المرء منا ما تنقله الأخبار من صور للدمار والخراب. والنفس تئن حين ترى وحشيةَ الإنسان في بداية القرن الحادي والعشرين. ومن هول الصدمة ينعقدُ اللسان وتجحظُ العينان ويزداد القلب خفقاناً من هذه الهمجيةِ المدنية. ولا يسعُ المشاهد إلا بأن يتأوَّه على مناظر الإنسان وهو ينهشُ بعضَه بعضاً حتى لأصبحَ الواحد منا يحس ويشعر بأنه يعيش في الغاب والقتل قد أضحى قانونَ البشر. وتَغرورِقُ المقلتانِ بالدموع، فتسقطُ متدحرجةً على الخدين، ويغصُّ الحلقُ بالبكاء إزاءَ ما يراه من آثار الحرب بفعل أداتِه الفتاكة. وسرعان ما تدوّي كلمات النبي إرميا في الذاكرة فنسمعه يصرخ صراخاً ويقول: "يا ليتَ رأسي ماء وعينيَّ ينبوعُ دموع فأبكي نهاراً وليلاً قتلى بنت شعبي... مَنْ مفرِّج عني الحزن . قلبي فـيَّ سقيم.."
نعم، القلبُ سقيم سقيم، والعقل قد تبلّد، إزاء ما يحصل في بلادنا من حصاد للنفوس وفتكٍ وقتلٍ وخراب. والسؤال: متى ستتوقَّف همجيةُ "هذا الإنسان المعاصر" ووحشيتُه على أخيه؟ ومتى ستكف آلةُ الحرب عن إرسال الموت إلى الناس. قلنا: إنَّ الإنسان تطور، وتقدم، وتمدَّن، وتحسَّن، وأصبح يعيش في عصر الحضارة والحرية. والآن نقول: أين هو من كلِّ ما يدَّعيه؟ وكيف به يعيشُ الحضارة ويتمتَّع بالتطور إذا كان لا يزال يستخدم الحربَ سلاحاً لكي يَحلَّ خلافاته ويغيِّر مفاهيمَ الآخر، هذا إذا لم يفْنِه ويتخلصْ منه كليَّا؟ تماما كما فعل في بداية الأزمان والأوقات ابنُ آدم وأخونا في البشرية قايين إذ قام على أخيه هابيل وقتله. وعلى مرِّ العصور والأجيال بقيت وتبقى النتيجةُ واحدة ووحيدة، لأنَّ الإنسانَ ما فتىء يقوم على أخيه ويقتله بحجةٍ في بعض الأحيان، ومن غير حجة في أحيانٍ أخرى. كل هذا يحصل والمجتمع الدولي منقسمٌ يدين فلاناً ويغضُّ الطرف عن فلان. وهكذا نراه عاجزاً عن فضّ خلافات الإنسان ووضع حدٍّ لانتهاكات الواحد ضدَّ الآخر. وعليه تبقى الصراعاتُ قائمة والحروب تتزايدُ ومجتمع الإنسان يعيش متخبطاً بين كرٍّ وفرٍّ ومدٍّ وجزرْ.
والآن، يتساءل الواحد منا ويقول: وهل تخلَّى الله عنا حتى غدَوْنا في شرٍّ عظيم كهذا؟ هذا التساؤل وردني في إحدى الرسائل الإلكترونية مؤخراً. هل تُراه تخلَّى الله عنا حتى بتنا عاجزين ولم يعد في مقدورنا التصرف بحكمة ورويَّة؟ لماذا يُنزل الله هذه المآسي والويلات علينا؟ ولماذا يسمح لنا بالشرور؟ ألا يستطيع أن يوقف الحرب بكلمة مِن فيه؟ بالتأكيد تخلى عنا ولم يعد يهمُّه أمرنا. وها نحن قد صرنا ألعوبة بأيدِ القادة ليفعلوا بنا ما يشاءون. آه أين العدل؟ ولماذا كل هذا الظلم؟ وإلى متى سنحتمل الذل والهوان، الخوف والذعر والحرمان؟ لقد يئسنا وتعبنا. يا رب خلصنا ويا رب أنقذنا. هذا هو لسان حال الكثيرين ممَّن اقتُلعوا من أراضيهم وصاروا لاجئين مشردين.
كل ما نراه اليوم ليس هو إلا نتيجة لشر الإنسان وعصيانه على الله. وما نشهده حاصلاً أمام أعيننا ما هو إلا تجسيد واضح لرغبة الإنسان في السيطرة على أخيه الإنسان، لا بل تجسيم بيِّن لرغبة الإنسان الجامحة في التسلُّط وبسط نفوذه على الآخر. لأن الله يا قارئي غير مجرَّب بالشرور وهو لا يجرِّب أحداً. هو الذي قال عن نفسه: أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض لأني بهذه أسر يقول الرب (إرميا 9:24). نعم، الله يا قارئي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. لذا فقلبه يئن الآن على بني البشر الذين يموتون في عصيانهم وخطاياهم، لا بل قلبه يعتصر من أجل آلامنا وأحزاننا، ولشدّ ما يحزن حين يقتل الإنسان أخاه الإنسان. والقتل غريب عن طبيعته لأن الله محبة. ولأنه كله محبة لم يترك هذا الإنسان في عصيانه وشره وبعده عنه، يوم أخطأ في الجنة. فأرسل ابنه الوحيد الذي وحده بلا خطية لكي يحمل بنفسه خطايا البشرية. وسمح للابن الوحيد أن يُهان ويُصلب من قِبلِ الإنسان العاصي والشرير لكي يفتديه ويمنحه حياة أبدية. إذن ليس الله هو مصدر هذه الشرور، بل الإنسان نفسه الذي ابتعد عن الله مصدر النعمة والخير والمحبة.
وحين علّم الرب يسوع المسيح في موعظته الشهيرة على الجبل، مضى إلى أبعد ما هو في الناموس وتطبيق الناموس حين قال: "قيل للقدماء لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم. ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم." إذن، لم يتكلم يسوع المسيح عن الأعراض أي الفعل الذي هو القتل، بل عن مصدر هذا الفعل الذي هو السبب. فالقلب مصدر كل شر ومصدر الأفعال التي تصدر عن البشر. هذا القلب هو الذي يحتاج إلى التغيير لكي تصدر عنه أفعال الخير والإحسان والمحبة. وإزاء روح العهد الجديد هذا، ماذا ترانا نفعل؟ وماذا ترانا نقول؟ أليس حري بنا أن نضرع إلى الله من أجل أن يغفر لنا خطايانا وآثامنا؟ أليس حري بنا أن نعود إليه تعالى بكل انكسار سائلينه الرحمة والغفران عليها؟ قال إرميا النبي: لماذا يشتكي الإنسانُ الحيُّ الرجلُ من قصاص خطاياه؟ لنفحص طرقنا ونمتحنها ونرجع إلى الرب. لنرفع قلوبنا وأيدينا إلى الله في السموات (مراثي 3: 39).
وفي الختام أقول مع سليمان الحكيم: "إنْ رأيتَ ظلم الفقير ونزعَ الحق والعدلِ في البلاد فلا ترتعْ من الأمر. لأنَّ فوق العالي عالياً يلاحظُ والأعلى فوقَهما." نعم إن الله لا يغفَلُ عن الظلم الذي هو حاصل الآن في مجتمع الإنسان. إن الله يرى ويعلم ويحس ويشعر ولا بد من أن يدين الأشرار وينتقم من الظالمين. لأنه يقول: لي النقمة أنا أجازي يقول الرب. فلا ترتع يا أخي ولا ترتعي يا أختي، لأن الرب ما زال على عرشه، وهو عالم بكل حال يمرُّ بها الإنسانُ أينما كان. فقط ارفع رأسك أخي المؤمن إلى فوق لأنَّ نجاتك تقترب. وثق بفاديك ومخلصك الذي وحده يرثي لضعفك. وتذكَّر أن مجتمع الإنسان ومهما تخطَّى من ألفيَّات ثالثة ورابعة فإنْ لم يتغيَّر قلبُه من الداخل فلن يفيده التقدم ولا الحضارة بشيء.