حزيران (يونيو) 2007
هلا أصغيت يوماً لصوتِ دمٍ مهراق؟! فالدماء تتكلم بوضوح وجلاء، وأصواتها تصرخ مجلجلة في الأرض وفي السماء، تهزّ النفوس الجامدة وتفتح الآذان الصماء. بعضها تستدعي النقمة وبعضها تسترحم وترجو المغفرة لمن أساء. فتفتح الأبواب لليائسين من رحمة الله لينعموا بفسحة الرجاء، ويفوزوا بالحياة السعيدة في نعيم السماء.
يحدثنا الكتاب المقدس عن هذه الدماء المتكلمة في عدة أماكن:
أولاً: دماء تصرخ طالبة الانتقام
1- دمٌ تكلم في البداية صارخاً من الأرض
قد يُعجب المرء أن أول فرد في سلاسة آدم وحواء كان قاتلاً، سفك دم أخيه ظلماً وعدواناً. فلقد انتقلت الخطيئة بكل قوتها إلى تلك الذرية التي ورثت إرادة العصيان. يقول الكتاب المقدس: ”فقال الرب لقايين: أين هابيل أخوك؟ فقال: أحارس أنا لأخي؟ [تأمل كيف أن الخاطئ يحاول أن يستغفل الله] فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إليّ من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك“ (تكوين 9:4-11).
ولنلاحظ هنا أن الله لم يلعن آدم رغم أن خطيئته كانت أصل الخطايا ولكنه قال له: ”ملعونة الأرض بسببك“. وقد لعن قايين مباشرة!! ومردّ ذلك لأن آدم كان ما زال يحمل في صلبه النسل المقدس الذي ابتدأ فيما بعد بابنه شيث، والذي تناسل منه أناس حفظهم الله في طاعته وصولاً إلى المسيح المخلص، الذي حمل في الجسد المتخذ من أمه العذراء مريم الأقنوم الثاني في اللاهوت، ثم بذل ذلك الجسد كفارة لخلاص البشرية!! بينما قايين كان قد أصبح خارج هذا النسل مع ذريته أيضاً.. وأن اللعنة التي وقعت عليه كانت استجابة من الله لصوت الدم البريء الذي أهرقه بغير حق. ويا لهول العقاب الذي ينتظر القتلة وسافكي الدماء البريئة إن عاجلاً أم آجلاً.
2- دم يتكلم في النهاية صارخاً من تحت المذبح في السماء
يقول سفر الرؤيا: ”ولما فُتح الختم الخامس، رأيت تحت المذبح نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم، وصرخوا بصوت عظيم قائلين: حتى متى أيها السيد القدوس والحق، لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض؟“ (رؤيا 9:6-10). فحتى قديسو السماء سيطلبون النقمة في عصر النهاية، وكل قطرة من دمٍ بريء يسفك تصرخ إلى الله طالبة الانتقام. وحتى من يقتل نفسه يُعتبر في نظر الله مجرماً، فكيف بمن يقتل نفسه إمعاناً في الشر فيقتل آخرين معه؟ كم من سيوف سُلّت بسبب الحسد والضغينة التي تعتمل في القلوب الحجرية المملوكة لسلطة إبليس؟ وكم من قنابل فُجِّرت لتقطّع الأجساد أشلاء، وتلطّخ الأرض والجدران بالدماء، وتزهق الأرواح البريئة وهي تصرخ نهاراً وليلاً في أذني الخالق العظيم؟ وكم من عيارات نارية أُطلقت على الرؤوس والصدور وخلّفت الأسى واللوعة في نفوس الثكالى؟ فكيف يتوقّع الفاعلون ألا تصرخ دماء الأبرياء إلى الله؟ وأين سيخفون أنفسهم من وجه الجالس على العرش متى جاءت ساعة غضبه العظيم، ومن يستطيع الوقوف؟
ثانياً: دم تكلم غافراً بين الأرض والسماء
فبين تلك البداية وهاتيك النهاية تكلم دم كريم من فوق الصليب بأعظم وأفضل ما يكون الكلام. يقول الإنجيل المقدس: ”ولما مضوا به [يسوع] إلى الموضع الذي يُدعى جمجمة صلبوه هناك مع المذنبَين واحداً عن يمينه والآخر عن يساره فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون“
(لوقا 23:23-24).
لقد طلب - له المجد - الصفح والغفران للذين عذّبوه وصلبوه، وربما اعتقد البعض أنه أقلّ جرماً من هؤلاء وأقلّ مسؤولية منهم. ولكن الكتاب المقدس يعلن بكل صراحة أن ”الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله“ (رومية 23:3). فكلنا كنا شركاء في الجرم بعناد نفوسنا وفساد طبيعتنا، لأننا ورثنا عن أبوينا الأولين خطية العصيان والتمرّد، ووُلدنا في أرض المنفى واللعنة خارج جنة الطهر والقداسة التي طُردنا منها. وصرنا تحت حكم الموت الأبدي الذي اجتاز من آدم الأول حتى شمل الجميع. ولكن آدم الأخير، الرب يسوع المسيح، قَبـِل الموت على الصليب كفارة عنا ليصالحنا مع الله حيث وفّى في جسده المصلوب عدالة الله التي أُهينت بالخطية. فقدّم الخلاص والغفران للجنس البشري الذي كان راسفاً تحت سلطان الظلمة مقيَّداً بأغلال الشيطان. وبدون تلك الكفارة لا يستطيع إنساناً ما أن يبرّر نفسه أمام الله إطلاقاً. قال الإنجيل المقدس مقارناً بين عجز الناموس الذي أُعطي لموسى النبي على الجبل وبين قوة دم المسيح الذي قُدِّم على صليب الجلجثة ”لأنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار وإلى ضباب وظلام وزوبعة... بل قد أتيتم إلى جبل صهيون... وإلى وسيط العهد الجديد يسوع وإلى دم رشّ يتكلم أفضل من هابيل“ (عبرانيين 18:12-24).
لقد تكلم دم المسيح طالباً رحمة الله، ضارعاً إلى الآب السماوي لأجل الصفح والغفران والرفق بالخطاة والمجرمين.. دم الصليب الذي فاض بالحب الإلهي الكامل لخلاص المذنبين مهما كانت جرائمهم على أن يأتوا تائبين معترفين بها!
لذا فقد تكلم بأفضل مما تكلم به دم هابيل الصديق الذي مات شهيداً بسبب حسد أخيه قايين، أما المسيح فقد قدَّم ذاته طوعاً واختياراً ليكمل خطة الفداء العظيم الذي جسّد كل الحب الإلهي مقابل البغض والجحود البشريين.
ويبقى العفو الذي أعلنه ذلك الدم المبارك متاحاً للجميع، ولكن حتى أجل محتوم في حكمته السامية، وبعد ذلك يغلق باب الرحمة حيث يأتي المسيح ثانية لا كحمل وديع يُهان ويُصلب بل كأسد جريح ينتقم لدمه ولجميع المظلومين عن جميع المظالم التي ارتُكبت ولم يتب أصحابها أو يقبلوا دعوته للخلاص والغفران.
عزيزي القارئ، أناشدك باسم الحب الإلهي العظيم ألا تهمل خلاص نفسك الخالدة فتنحدر أخيراً إلى أعماق الجحيم، فدم المسيح هو فداء لك من أية جنسية أو خلفية كنت. وغفران الله الذي توسّل إليه يسوع المصلوب يشمل جميع الذين يقبلون إليه طالبين العفو والمسامحة فيتركون طرقهم القديمة ويتخلون عن أفكارهم المليئة بالكراهية، والحقد، والحسد، والغيرة، والكبرياء. فباب الرحمة ما زال مفتوحاً، والرب يقول لك: ”من يقبل إليّ لا أخرجه خارجاً“. فلا يفيدك أن تحتج باجتهادات المجتهدين، ولن يجديك أن تتذرّع بالجهل لخطة الله الفدائية، فقد مُنحت عقلاً واعياً وقدرة على التمييز بين الحق والباطل. وأنت وحدك المسؤول عن نفسك أمام الله، فلا تستطيع الادعاء باتّباعك الطائفة أو الديانة التي اتخذتها أو وُلدت فيها لأن حساب الله سيكون شخصياً لكلٍ بمفرده بمعزل عن جميع الأعذار والادعاءات.