Voice of Preaching the Gospel

vopg

حزيران (يونيو) 2007

اختطافي من بيتي

بدأ فجأة جرس البيت يرنّ بشدة، وكانت الساعة الرابعة صباحاً من يوم 24 تموز سنة 1948. قمت وأنا مثقل بالنعاس، لبست ردائي ومضيت إلى الباب.

 

كان بانتظاري ثلاثة غرباء، اثنان منهما يرتديان ثياباً عادية والثالث يلبس زيّاً عسكريّاً. قال القائد ذو الثياب المدنية، "جئنا لكي نفتّش بيتك ثم تجاوزني في طريقه إلى البيت النائم. فتشوا في كل مكان من البيت؛ لم يَفُتْهُم شيء البتّة! وعندما أشرقت الشمس حوالي الساعة السابعة أمروني أن أرافقهم. وقالوا لي أنه ينبغي عليّ أن أذهب "لاستجواب بسيط" فقط. ولم أكن أعلم أن "الاستجواب البسيط" هذا سيدوم لمدة ثلاث عشرة سنة طويلة من العذاب والسجن. وبينما كانوا يسوقونني إلى الباب وأنا نصف عارٍ استيقظت ابنتي الصغيرة رودا، وجاءت راكضة إلى غرفة الجلوس. فقد أدركت بحس الأطفال البديهي أنّهم يخطفون أباها منها. لذلك أجهشت بالبكاء، وإذ كانت الدموع تنهمر على خدّيها صار جسدها الصغير يرتجف وهي تشهق بشكل متواصل.

وبدأت رودا تصرخ، "إنهم يأخذون البابا. إنهم يأخذون البابا!" ولم أستطع أن أحتمل قساوة المشهد، فانهمرت الدموع من عينيّ عندما ضمَمْتُ ابنتي رودا إلى صدري. وأكّدت لها مراراَ أنني سأعود سريعاً إليها مع أنني كنت أعرف في أعماقي أن هذا هو الإعصار الذي كنت أتوقعه. ولكن قلب رودا كان منكسراً بالرغم من كلّ تطميناتي لها، ولم أقدر على مؤاساتها. وأظنّ أنها أدركت كطفلة أنها لن ترى أباها ثانية. وهكذا قبّّلْتُ راعوث ورودا مودّعاً إيّاهما والدموع تُحرِق عينيّ، عالماً أنني قد لا أراهما فيما بعد.

خضعت في قسم الشرطة للتفتيش من رأسي حتى أخمص قدمي، ثم سُجنت في زنزانة كان في داخلها سجين آخر من أصل أرمني. كانت الزنزانة قذرة ومليئة بالورق والقمامة. وفي إحدى زواياها قدر من فخار يخدم كمرحاض لنا. كانت القدر عائمة تفوح منها رائحة منتنة كريهة. بدأت أتمشى ذهاباً وإياباً من الثامنة صباحاً إلى الثامنة مساءً قلقاً على راعوث ورودا وبولس.

بداية الليالي التي لا تنتهي

انفتح باب زنزانتي في الساعة الثامنة من ذلك المساء، وأمرني شاب بأن أرافقه. أنزلني إلى الطابق الثاني إلى مكتب جميل مفروش حيث قدّمني إلى شاب آخر. وأعلموني بأن عليّ أن أخاطبه بلقب "السيد المفتّش."

وقفت أمام "السيد المفتش" ووجّه سؤاله الأول إليّ.

"هل تعرف الفرق بين القوات المسلّحة والشرطة؟"

فكرت أن السؤال كان مجرّد نكتة فقلت، "لا. لست أعلم. كل حياتي لم أكن لاهتمّ بالأمور التي تخصّ الشرطة."

أزعجه جوابي وصرخ، "لا تلعب معي أيها السجين بوبوف. قف مقابل ذلك الحائط ولا تتحرّك!"

وربما تبدو هذه العقوبة أنها خفيفة، ولكنني أؤكّد لك بأنها متعبة جداً ومؤلمة لكل الجسد، وخاصة لأسفل الظهر.

ظلّ "السيد المفتش" يسألني نفس السؤال من الساعة الثامنة مساء حتى منتصف الليل وأنا واقف بلا حراك. تكرّر السؤال عليّ كل خمس إلى عشر دقائق: "هل تعرف الفرق ما بين القوات المسلّحة والشرطة؟" حاولت أن أشرح له بأنني لا أعلم. وعندما رأيت أنني أجيب عبثاً توقفت عن الإجابة. وصرخ في وجهي قائلاً، "سنعلّمك درساً! ارفع يديك لفوق ولا تحرّكْ عضلة!"

أخيراً حوالي منتصف الليل، قال لي "السيد المفتش"، "سأخبرك الفرق بين القوات المسلحة والشرطة. إن الشرطة تعمل لحفظ مصالح القادة الأغنياء أما القوات المسلحة فتحرس مصالح الناس العاملين المخلصين." وعندها سمح لي بأن أخفض ذراعيّ.  كان هذا درساً صعباً تعلّمته في علم الكلام الشيوعي!

شعرت بأن ذراعيّ ثقيلان كلوحين من خشب.

تركني لرقابة شاب يدعى جوردان وهو الذي أتى بي من زنزانتي. قضى جوردان الليل كله جالساً على كرسيّ خلفي بينما وقفت أنا مقابل الحائط. ولم أكن أعلم أنني سأقابل الحائط لمدة أسبوعين وليس لليلة واحدة فقط!

كانت الساعات الأخيرة من الليل بين الثالثة والسابعة صباحاً أصعب الكل. بعد أن وقفت مقابل الحائط الليل كلّه بدون أدنى لحظة من النوم صارت الساعات تبدو لي بطول الأبدية. كنت متعباً جداً ولا أريد إلا أن أنام؛ لكن البقّ الكثير في الفراش مع الحشرات الزاحفة الأخرى كان كفيلاً بإبقائي يقظاً.

امتلأ جسدي سريعاً بالحشرات، وأضحى النوم مستحيلاً. وصرت مجبراً على النهوض والتحرك ذهاباً وإياباً.

وسمعت بعد ذلك إشاعة بأن الزنزانات تعج بالحشرات والقمل عن قصد، وذلك لكي تجعل الوضع أسوأ للمساجين. لم أكن أعلم إذا كان الأمر صحيحاً، لكنني ظننت بأنه كذلك لكثرة حشودها المتواجدة داخل الزنزانات. جاء يوم الأحد 25 تموز، وللمرة الأولى منذ سنين عديدة لم أصرف يوم الأحد في الكنيسة. ركعت في زنزانتي، وسرحت بفكري نحو إخوتي وأخواتي في المسيح الذين يعبدون الرب في تلك اللحظة.  افتكرت بأولادي وزوجتي الذين تركتهم بلا مال أو طعام - كم كنت أتمنى لو أكون معهم! صليت قائلاً، "يا ربّ، كن راعياً لهم في المستقبل مهما حمله لهم." وأيقنت عندها أنه قد بدأ الاضطهاد الكبير من أجل المسيح. فقد حدث هذا مراراً وتكراراً عبر تاريخ الكنيسة، وتضرعت من أعماقي إلى الله لكي يعطيني القوة لأتشبّه بالتلاميذ وبشهداء الكنيسة الأولى إذ لم يكن بإمكاني البتة أن أقوم بذلك لوحدي.

استمر التحقيق طوال الليل لمدة أسبوع من الزمن. وكان يتبع ذات النموذج باستمرار. كلما حلّ الظلام ينزلونني على الدرج ويجعلونني أقف على بعد 20 سنتمتراً من الحائط. وهناك يتم استجوابي من الساعة السابعة مساء وحتى حوالي الثامنة صباح اليوم التالي، ولم يكن مسموحاً لي أن أغلق عينيّ وإلا انتصب ”جوردان“ وصرخ فيّ قائلاً، "كفى! كفى! هذا غير مسموح." أما في النهار فكنت أحارب الحشرات الزاحفة ولم تكن لي أي فرصة للراحة. لم يأتِ أحد ليأخذني إلى الطابق السفلي مساء السبت. ولكن حوالي منتصف الليل سمعت المفتاح يتحرك في القفل وصوتاً غير مألوف يصرخ، "بوبوف، اخرج إلى هنا! ستنتقل من هنا."

قادتني الشرطة إلى الخارج حيث انتظرتنا سيارة شرطة ملقّبة "بالغراب الأسود،" وفيها شرطيان. سارت السيارة بنا في الشارع الرئيسي لمدينة صوفيا ووصلنا خلال دقائق إلى مبنى أبيض كبير. كان ذلك مركز قيادة المخابرات البغيضة.

"أهلاً بك في البيت الأبيض، أيها السجين بوبوف".

كانت المخابرات تُعرَف باسم درشافنا سيغرنوست أو دي إس (Dershavna Sigornost أو DS) وكان مركز القيادة داخل مبنى أبيض كبير يلقّبه الناس باسم "البيت الأبيض." ولكنني أؤكّد بأن هذا "البيت الأبيض" يختلف جداً عن البيت الأبيض الأميركي.

لقد دخل هذا "البيت الأبيض" رجال هم من أفضل مواطني البلد لكنهم لم يخرجوا أحياء البتة. وكان شائعاً أن "البيت الأبيض" فيه مقبرة سرّية للتخلّص من أجساد ضحاياه.

كان اسم DS عند شعب بلغاريا يعني الاختفاء والعذاب والموت. كُتِب على باب إحدى الزنزانات اقتباس من كوميديا "الملهاة" الإلهية لدانتي: " يا من تدخل إلى هنا تخلَّ عن كل أمل." يا له من شعار مناسب! فقد مات في هذا المكان أناس أكثر من الذين خرجوا أحياء، والذين نجوا لم يعيشوا طويلاً بسبب العذاب الذي ذاقوه. وشاع أن الناس الذين يمرون بجوار مبنى DS على الشارع المرصوف بالحصى يمكنهم سماع صرخات صاعدة من الزنزانات في أسفل المجمّع الموجود هناك. وقد وجدت فيما بعد أن هذا الأمر صحيح.

عندما توقف "الغراب الأسود" وأدخلوني إلى المبنى بدأ الخوف والقلق يملآن كياني. فقد مرّ عليّ أسبوع من التحقيق وعدم النوم، وكان جسمي يرتجف وينتفض. وبينما هم يقودونني إلى الداخل تواردت لذهني كلمات المزمور 28:73، "...جعلت بالسيد الرب ملجأي..."

لم أتوقع عوناً من أحد في "البيت الأبيض." فتنهدت في صلاة صامتة قائلاً، "يا الله، حياتي بين يديك." وللوقت بدأت مخاوفي تتبدّد، شعرت بسلام عظيم وزالت الرجفة من جسدي. ربما كان الموت ينتظرني في "البيت الأبيض،" لكن قلبي ظلّ يحمد الله ويعبده.

عندما يواجه الإنسان الموت فإنه يمتحن نفسه ويفكّر بعلاقته مع الله. عندها يرى الأشياء بوضوح شديد. لقد أقنعت ذاتي بأن حياتي على الأرض ستنتهي عن قريب وبعد قليل سأصبح مع الرب. اتّضح لي بأنهم أتوا بي إلى هذا المكان لكي أموت. خسرت قبل أسبوع أغلى ما عندي هنا في الأرض- زوجتي وعائلتي وكنيستي وبيتي- لكنني شعرت بأن الله بجانبي وأنا أدخل أبواب مركز قيادة المخابرات.

تطلعّ الحارس إليّ بسخرية وقال، "أهلاً بك في البيت الأبيض، أيها السجين بوبوف." ومن جديد عرّوني وفتشوني، ثم قادوني إلى الطابق الثالث. وبينما كنت أصعد الدرج لاحظت أسلاكاً مشبكة منصوبة على جوانب الدرج لمنع أيّ سجين في المخابرات من رمي نفسه من فوق الدرج بغرض النجاة. ومن الواضح أن كثيرين من المساجين جرّبوا الانتحار فكان لا بد من وضع هذه الأسلاك لردعهم.

قادوني في الطابق الثالث إلى ممر طويل مظلم فيه نوافذ وسخة مزلّجة من جانب، تقابلها صفوف من أبواب الزنزانات الصدئة الداكنة عن الجانب الآخر. كان في كل باب ثقب هو عبارة عن "عين ساحرة" يغطّيه قرص متحرك. كانت هذه الثقوب تسمح للحراس بمراقبة المساجين. ولم يكن يصدر من سكان تلك الزنزانات إلا أنين يكاد لا يُسمَع. أما الحراس فكانوا ينتعلون أحذية من قماش سميك لكي لا يسمع المساجين حسهم لدى اقترابهم منهم.

لكن دعوني أخبركم ما الذي سبق وصولي إلى هذه المرحلة من حياتي.

ملاحظة، إن أحببت يا عزيزي القارئ أن تعرف بقية قصة هارلان بوبوف يمكنك شراء كتاب "العذاب من أجل الإيمان" باللغة العربية". الكتاب مترجم إلى 26 لغة آخرها اللغة العربية، ومطبوع بأكثر من مليون نسخة.

المجموعة: 200706

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

122 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10472939