حزيران (يونيو) 2007
تحدّثنا في المرة السابقة عن شخصية يعقوب، الغريب المتألم، الذي رأى أن الحياة غربة قصيرة ومشقة وألم، ومرحلة مؤقتة استعداداً لأبدية دائمة.
وفي هذه الحلقة نتأمل في نظرة الجاهل المؤمّل من خلال مثل الغني الغبي، وأمثاله كثيرون الذين يضعون أملهم ورجاءهم فيما يملكون في هذا العالم، وهم لا يذكرون أن العالم يمضي وشهوته. هذا الغني الذي وصفه الرب بالغبي الجاهل. لكن بلغة العصر، إنه رجل ذكي جداً، مستثمر ورجل أعمال ناجح، ومخطط بارع، لما زادت وكثرت محاصيله، خطط أن يهدم المخازن القديمة الضيقة ويبني أعظم منها.
والسؤال هنا، إذا كان لهذا الرجل كل هذه الصفات ومقوّمات الذكاء والنجاح، فلماذا ينعته الرب بالغباء والجهل؟ يتضّح الجواب من الكلمات التي نطق بها وتوضّح فكر قلبه في الحياة والأبدية، فقال: "أقول لنفسي: يا نفس لكِ خيرات كثيرة، موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي" (لوقا 19:12). فلماذا إذاً كان غبياً؟ إنه غبي لأنه:
1- جعل الذات قبل الرب الإله
أحب نفسه أكثر من الله فقال: "أقول لنفسي: يا نفس لكِ خيرات كثيرة"، إنه في كل كلماته وحديثه يخاطب نفسه: استريحي يا نفسي! كلي يا نفسي! اشربي يا نفسي! افرحي يا نفسي! ولم يوجّه كلمة واحدة لمن أعطاه كل تلك الخيرات، وكأنها كلها من صنع يديه وليس من عند الله. إن الرب يسوع يحذّرنا من محبة ذواتنا أكثر منه فيقول: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني. ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني" (متى 37:10). وفي إنجيل لوقا يشدّد الرب بصورة قوية على أن تكون الأولوية له في جميع نواحي الحياة فيقول: "إن كان أحد يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، حتى نفسه أيضاً، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً" (لوقا 26:14). والمعنى هنا هو أن نحب الله قبل أي شيء، وأكثر من أي إنسان. وهذه وصية الرب الأولى والعظمى: "تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى" (مرقس 3:12). ومن هنا يتّضح لنا أن هذا الرجل كان غبياً لأنه أحبّ ذاته أكثر من إلهه.
وأيضاً كان غبياً لأنه،
2- وضع رجاءه في الماديات وتجاهل معطي الخيرات
لقد قال: "يا نفس لكِ خيرات كثيرة"، ولم يقل لكِ الله مصدر كل خير! لم يقل هيّا يا نفسي اشكري الله واعبديه! لقد اتكل على غناه، ووضع كل ثقته فيه، جعله أمله ورجاءه في الحياة. يقول الرب لأمثال هذا الرجل على فم الرسول بولس: "إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح فإننا أشقى جميع الناس" (1كورنثوس 19:15). فكم بالحري لو كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المال وبدون المسيح، فيا لشقاوتنا وتعاستنا! ويقول سليمان الحكيم: "لا ينفع الغنى في يوم السخط. أما البرّ فينجّي من الموت... من يتكل على غناه يسقط" (أمثال 4:11 و28).
وهناك سبب آخر لغبائه: إنه غبي لأنه،
3- ظنّ أن السعادة هي في الجسديات فأغفل الروحيات
تأمل معي قارئي الكريم في كلماته التي تدل على الفهم الخاطئ للسعادة، قال: "استريحي وكلي واشربي وافرحي". ظنّ أن سعادته هي في الأكل والشرب، وأن راحته وفرحه مضمونان بضمان ماله. يا للغباء! لم يعلم أن الراحة والفرح والسعادة هي في شخص الرب يسوع المسيح وحده الذي قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم" (متى 28:1). هل إنه لم ينظر حوله ولم يرَ كم من الأغنياء هم تعساء وأشقياء، يضطجعون على فراش المرض لسنوات هذه عددها ولم ينفعهم مالهم؟!
كان جون روكفلر في يوم من الأيام أغنى أغنياء العالم، وكان يُسمى "ملك البترول". لكنه فجأة تبرّع بكل ثروته للأعمال الخيرية. وعندما لاحقته وكالات الأنباء لتعرف السبب الذي لأجله ترك هذا الملياردير كل هذه المليارات من الدولارات، قال روكفلر: "تركت كل أموال لكي أنهي جبال العبودية للمال، ولكي أنظف يدي وذهني من كل ما يتعلق بدنيا المال، ولكي أؤكد لكل من يحسدني على كوني أغنى رجل في العالم، لكنني أتعس إنسان في الوجود! تركت كل أموالي لأثبت للناس أن المال هو المفتاح الذي يفتح جميع الأبواب في هذا العالم إلا باب السعادة، وأرجو وأنا فقير الآن أن أكون أقلّ تعاسة!"
يؤكد الكتاب المقدس هذه الحقيقة فيقول على فم السيد المسيح: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟" كان هذا الرجل حقاً غبياً لأنه أغفل الروحيات ليتمتّع بالماديات التي لا تشبع ولا تُسعد، لأن "من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً"!
أما السبب الأخير لغباء هذا الرجل فهو لأنه،
4- تجاهل نهاية الحياة وعدم ضمان الأيام
حقاً، ما أغبى هذا الرجل الذي تفوّه بهذه العبارة التي تنمّ عن جهله؟! لقد قال: "يا نفس. لكِ خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة". لكن الله قال له: "يا غبي، هذه الليلة تُطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" يا غبي، هل بقدرتك أو قدرة غيرك أن يضمن لحظة واحدة لحياته؟ اسأل آباءك وأجدادك، وإن أمكنك أن تسأل الملوك والأباطرة والمحاربين العظماء الذين هزموا ممالك وفتحوا بلداناً كثيرة، أين هم الآن؟ لقد طواهم الثرى، ولاحقهم الموت، وبعضهم مات فجأة دون مرض، وبعضهم قضى نحبه منتحراً أو غريقاً أو مدفوناً تحت أنقاض بيوت دمرها زلزال.. نهايتهم جميعاً كانت الموت، فهل أنت أفضل منهم؟ وهل خُلقت من مادة أخرى غير التراب الذي ترجع إليه؟ يا غبي، اذكر أن الحياة غير مضمونة، ولا بد أن تنتهي بالموت "لأنه ما هي حياتكم، إنها بخار يظهر قليلاً ثم يضمحلّ".
ما أكثر الذين مثل هذا الرجل، يظنون أنهم أغنياء، ومتعلمون، وأذكياء، وفهماء، وحكماء؟! لكن الرب يصفهم بالغباء لأنهم لم يضعوا الرب أولاً في حياتهم ووضعوا ثقتهم واتكالهم ورجاءهم على الأمور المادية ولم يفكروا في نهاية حياتهم.
ركب موظف مصنع الحديد والصلب في حلوان بمصر الأتوبيس من أول محطة له بالقرب من منزله في شبرا بمصر الساعة السادسة صباحاً ليصل إلى مكان عمله في ميعاده الساعة الثامنة صباحاً، وكعادته جلس على الكرسي وراح يغطّ في نوم عميق. عندما وصل الأتوبيس المحطة الأخيرة، وهي المحطة التي يجب أن يترك جميع الركاب الأتوبيس، نزل الجميع، وذهب كل واحد في طريقه إلا هذا الموظف الذي عندما رآه السائق وطلب منه أن يستيقظ ويخرج من الأتوبيس، وجده قد فارق الحياة.
عزيزي القارئ، أرجو أن تتّعظ من هذا المثل الذي كلمنا به المسيح لكي تضع الرب أولاً في حياتك، وتضع رجاءك في المسيح مصدر كل خير، وتعرف أن السعادة الحقيقة تبدأ هنا بالشركة مع الرب يسوع المسيح وتدوم معه في الأبدية.
أيها الأخ تأمل في سبيل ذي الحياة
أين أنت ذاهب بعد الوفاة؟
فاستعد حالاً أسرعنّ للنجاة
واصطلح مع ربنا فادي الخطاة