شباط (فبراير) 2008
من بين المعجزات المذهلات التي قام بها يسوع معجزة يحدثنا عنها إنجيل لوقا في الأصحاح الخامس. فهذه أيضاً معجزة مزيدة، ونحن لو دققنا النظر في كل معجزة قام بها يسوع لوجدنا أنّ في كلٍّ منها تفرّد مذهل عجيب.
فبينما كان المسيح يعلم وهو جالس في منزل أحدهم، وكان من بين الحضور فرّيسيون ومعلّمون للناموس، وقد جاءوا من مناطق شتى من البلاد - من الجليل ومن اليهودية ومن أورشليم - وإذا برجال يحملون إنساناً مفلوجاً حاولوا أن يدخلوا به إلى داخل البيت حيث كان يسوع وعجزوا بسبب الازدحام حول الباب، فسهل عليهم أن يصعدوا إلى سطح البيت، ويُدلّوا المريض مع فراشه من بين فتحة في الآجر، وإذا بالمريض أمام المسيح، فلما رأى إيمانهم نظر إلى المفلوج، وقال: "أيها الإنسان، مغفورة لك خطاياك". هذه العبارة حملت رسالة لمعارضي المسيح من الحضور كالفرّيسيين والناموسيين لتوضح لهم حقيقة هوية المسيح من هو!
وإذ قال هذا ابتدأ الكتبة والفرّيسيون يتهامسون في قلوبهم قائلين: ”من هذا الذي يتكلم بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده؟ فشعر يسوع بأفكارهم، وقال لهم: ماذا تفكرون في قلوبكم؟ أيما أيسر أن يُقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يُقال قمْ وامشِ. ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا - قال للمفلوج: لك أقول قم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك. ففي الحال قام أمامهم، وحمل ما كان مضطجعاً عليه، ومضى إلى بيته وهو يمجد الله. فأخذت الجميع حيرة ومجدوا الله، وامتلأوا خوفاً قائلين: إننا رأينا اليوم عجائب!“
قارئي الكريم، أحداث هذه المعجزة جرت في بيتٍ يهودي من مدينة كفرناحوم. والقاعة التي جرت فيها المعجزة كان يعلوها سقف خشبي مُغَشّى بقطعٍ من القرميد أو الآجر يسهل نقبها. وبيوت الفلاحين في تلك الأزمنة كانت في غالب الأحيان تحتفظ بسلّمٍ قائمٍ خلف الدار للصعود إلى السطح كلما دعت الحاجة لأغراض عائلية. وفي الوقت الذي صنع فيه يسوع هذه المعجزة كان البيت يعجُّ بالحضور وخليط من الناس جاءوا من مناطق مختلفة. فبعضهم جاء ليستشفيَ وآخرون جاءوا ليستمتعوا بخطب يسوع وأقواله أو ما يصنعه من معجزات، وغيرهم جاءوا لمجرّد حب الاستطلاع. فالأخبار عن المسيح كانت تعُمُّ البلاد، والناس يتحدّثون بها. ومن بين من حضر، حضرت مجموعة من الفرّيسيين ومعلّمي الشريعة بغرض النقد والمعارضة، والمسيح علاّم الغيوب كان يرصد كلّ ما كان يجري من حوله في أفكار الناس، وبل وكان يعلم ما كان يخطط له الرجال الذين حملوا المفلوج إلى حيث كان هو، وكان يعرف مدى إيمان هؤلاء، ويعرف أحوال الرجل المفلوج، لا تخفى عليه خافية. فلما أنزلوا المريض أمامه من الطاقة، وقبل أن تبدو أية إشارة من المريض أو من رفاقه، قام المسيح بالمبادرة، فقال للمفلوج: "مغفورة لك خطاياك".
هذه العبارة صَعَقَت الحضور من منتقديه من حُرّاس الشريعة، فقالوا في نفوسهم: من هو هذا الذي يتكلم بتجاديف؟ فغافر الخطايا هو الله وحده، ثمّ هذا من أدراه بخطايا إنسان مفلوجٍ ملقىً على فراشه، أوليست حاجته الاستشفاء؟ هنا يكمن السّرّ الذي نسعى لكشف لغزه والتعرّف على ما وراءه!
نقول سرٌّ أو لغزٌ ذلك لأن،
1- الأمر يتعلق بالله
وكلّ ما يتعلق بالله هو سرّ يتسامى فوق إدراك البشر. فعقل الإنسان محدود بأدوات فهمه القاصرة عن إدراك غير المحدود في ما يختص بالله.
2- أسرار الله تزداد غموضاً لدى من لم يتعرّف بعد على حقيقة هوية المسيح.
فحين قال له المجد: ”مغفورة لك خطاياك“ خيّم الغموض على الفرّيسيين المتعصبين من اليهود وقالوا فيما بينهم بهمسٍ: ”من يستطيع أن يغفر الخطايا غير الله؟“ ولذلك تململوا في قلوبهم وتساءلوا بصمت، من هو هذا الذي يتكلم بتجاديف؟ فإن لم يكن المسيح هو الله، فهو حتماً يكون مجدّفاً، لأن غافر الخطايا هو الله وحده. لاحظ المسيح ما كان يدور في خَلْدهم من غموض وأراد أن يكاشفهم ليوضح لهم هويته، فقال: أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال للمفلوج قم وامشِ؟ فسكتوا... عندها اتجه إلى المفلوج الملقى على فراشه بلا حراكٍ وقال: قم واحمل فراشك واذهب إلى بيتك! فقام الرجل في الحال وحمل فراشه على كتفيه وهو يمجّد الله بصوتٍ عظيمٍ، وشقَّ طريقه بين الجمع وقد أخذتهم الحيرة، وامتلأوا خوفاً من رهبة ما حدث، وقالوا: إننا رأينا اليوم عجائب!
فالمسيح بهذا يكون قد حسم الموقف، فهو أولاً كشف ما كان يدور في دواخلهم من نقدٍ ورفضٍ لما قاله، ثمّ ثانياً قدّم الدليل علناً على أنه هو الرب غفّار الذنوب، وهو يعلم أنه يتحدّث أمام جموعٍ من اليهود تؤمن بوحدانية الله وتدرك أن غفران الخطايا هو من حق الله وحده. ثم جاءت الخطوة الثالثة التي صادقت على صحة ما سبقها عندما قال: "مغفورة لك خطاياك"، فالذي يقيم المفلوج بكلمةٍ يستطيعُ أن يغفر الخطايا لأن الصِّفتين هما من صفات الله، وهما القدرة على الشفاء والغفران، فالمعجزة شهدت لصدق صاحبها.
ويبقى السؤال: لماذا ركّز المسيح على غفران خطايا المفلوج قبل أن يوجّه عنايته إلى حاجته للشفاء؟ ذلك لأن المسيح هنا يذكرنا بالأولويات التي نحتاج إليها. فالشفاء الجسدي يخدم الجسد إلى حين، لكن الشفاء الروحي يتعلق بالحياة الأبدية والمصير الأبدي للإنسان، فماذا ينتفع المريض لو شفي من مرضه وخسر أبديته؟ أو ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟ وماذا لو ملأ مخازنه بالجواهر ولم يفطن لأبديته؟ فغفران الخطايا يجب أن يتقدم على كلّ اهتماماتنا، وأن يتصدّر كلّ أولوياتنا من صحةٍ، أو طعامٍ، أو لباسٍ، أو رفاةٍ، أو مالٍ.. فهذا ما جاء المسيح لأجله؛ جاء ليخلصنا من خطايانا ليؤمِّن طريقنا إلى الفردوس، فحمل عنا قصاص خطايانا على الصليب ليمنحنا الغفران.
عندما أخطأ آدم أفقدته خطيئته العشرة مع الله، فطُرد من الجنة، ولن يعود إليها إلا مغفور الخطايا. ومن حينها، فإن أبواب الجنة موصدة في وجه كل إنسان لم ينل غفراناً لخطاياه. والغفران له ثمن، والثمن دفعه المسيح على الصليب فدية لكلّ من يتوب إليه ويرجو رحمته.
هناك سؤال قد يخطر بالبال: لماذا طلب المسيح من المفلوج أن يحمل فراشه، فما قيمة الفراش أمام معجزة الشفاء بعد أن ينهض ويقوم معافى؟ فللإجابة أقول: حمْلُ الفراش يقدّم الدليل القاطع على صدق المعجزة أمام الحضور وبعضهم معارض، وأمام المارة في الطرقات وهو ذاهبٌ إلى بيته. إن مَحْمَلُهُ لفراشه، وهو راجع في الطريق يقدم شهادة تحمل برهانها معها.
فالمسيح لا ينطق بكلمة أو يقوم بعملٍ إلا وفيه لنا رسالة. هذا هو المسيح الذي نعتز بالانتماء إليه، وهو المسيح الذي احتارت به الشعوب وغمض سرّه عنها علماً أن هويته واضحة لو علموا وهي أوضح من نور الشمس، ولذلك أحببناه ونحبه، وعبدناه ونعبده، فهو الرّبّ القادر على كلّ شيء! فهل عرفته قارئي الكريم؟