تشرين الأول (أكتوبر) 2008
يحتاج المؤمن، من وقت لآخر، أن يرجع إلى نفسه وإلى حالته؛ فيقيّمها من جديد، ويفحص دوافعه ورغباته، ويمتحن ما وصل إليه من نتائج. ورجوع مثل هذا ضروري للحفاظ على استطراد التقدم واستقامة المسير وتصعيد الإنتاج الروحي.
لأن المؤمن في سيره العجول ومشغولياته المتكاثرة، معرّض للانحراف - بلا وعي منه - عن خط السير الروحي السليم وعن نهج الصليب الذي تكرّس له من البداية.
يعاني مؤمن القرن الحادي والعشرين أزمة خطيرة، هي انعدام التأمل؛ ففي خضمّ الحياة المعاصرة المشحونة بمبيدات الوقت، يجد المؤمن نفسه بلا وقت يصرفه أمام الله مع كتابه ومع نفسه. لقد صاغ التأمل مؤمنين كثيرين في الماضي وحوّلهم إلى قديسين، رجالاً لله؛ إذ ساعدهم على تجنّب الزلل والتعلّم من الخطأ والعودة إلى جادة الروح. إن رغبات الروح ومشتهيات الجسد تتقارب أحياناً، لدرجة يصعب التمييز بينها. فالجدير بنا في حالات كهذه، ليس التصرف برعونة، بل الرجوع إلى النفس والتأمل لكي نسترشد الروح فيسهل علينا الاختيار.
إن الغاية التي يجب أن يتوخّاها المؤمن من رجوعه إلى نفسه هي ضمان الاستمرار في حياة الإيمان على المستوى الرفيع الذي عاشه أجدادنا المؤمنون من إبراهيم إلى القلة التي بيننا في الزمان الحاضر.
لذلك فالأسئلة التالية تساعدنا على امتحان أنفسنا في ساعة رجوعنا إليها:
1- هل تدنّى مستوى تكريسي للمسيح؟
لا بد أننا نتذكر ذلك اليوم الذي فيه قررنا بعزم القلب أن نهجر العالم بكل ما فيه، وننتسب إلى المسيح، ونلتحق بتلك القافلة الغريبة التي تتقدّم صعداً، الكنيسة. لقد كان يوماً فاصلاً، وضعنا فيه أنفسنا بتمامها بين يدي الرب دون قيد أو شرط، واستسلمنا لمشيئته مصممين أن نحيا ما بقي من حياتنا له. ولكن ما أن انجلى غبار تلك الواقعة حتى رأينا أنفسنا نسير مع الرب بتحفّظ، واستسغنا الاحتفاظ لأنفسنا ببعض ما قدّمناه على مذبح التكريس للرب، وقلّ الحماس الروحي في حياتنا. فهل لا نزال في هذه الحالة؟ إن الرب يريد أن يكون رب الكل في حياتنا أو لا يكون رباً على الإطلاق.
وإن غاب عن بالنا معنى التكريس فلنتذكر أن التكريس هو الموت مع المسيح على الصليب، والدفن معه، والقيامة معه لحياة جديدة، والصعود معه إلى السماويات حيث سيرتنا.
يعني التكريس صلب الذات ورغباتها ودفن الـ ”أنا“ وكبريائها وكرامتها، لكي يحيا المسيح فينا. وهذا يعني أيضاً أن جسدنا أصبح جسد المسيح الساكن فينا. فالعين عينه، واليد يده، واللسان لسانه، والأذن أذنه، والقلب قلبه، والفكر فكره، والعواطف عواطفه، والكل له.
يعني التكريس أن ننفِق ونُنفَق حتى الموت من أجل الذي بذل حياته لأجلنا. لم يبخل المسيح علينا بدمه، بل بذله كله من أجلنا، فكيف نبخل نحن عليه بأموالنا، وبيوتنا، وأوقاتنا وطاقاتنا؟! ليتنا نفحص أنفسنا أمام الصليب وفي ضوئه: أوَلسنا نعيش لذواتنا أكثر مما نعيش للرب الذي افتدانا؟ إننا لم نُعيَّر إلى الآن كما عُيِّر هو لأجلنا، ولم نُضرب أو نُلكم كما ضُرب ولُكم لأجلنا، ولم نُعرَّ كما عُرّي، ولم نمت في سبيله بعد كما مات لأجلنا. إننا لم نحمل بعد سماته في أجسادنا.
يعني التكريس أن يفوق حماسنا للمسيح وقضيته حماس أشدّ المتحمّسين لأفضل قضية في العالم.
2- هل تصاعد مقدار محبتي ليسوع؟
يُفترض في المؤمن أن ينمو في محبته ليسوع؛ فبقدر ما نتعرّف على يسوع أكثر بقدر ما يجب أن تزداد محبتنا له. وأظن أن ما مضى علينا من زمن في حياة الإيمان كافٍ ليجعلنا نفحص أنفسنا على أساسه ونرى إن كانت محبتنا للرب في تصاعد أم لا. ويعيننا في ذلك أيضاً التحديد التالي: هل لا تزال محبتنا للمسيح قائمة على أساس العرفان بالجميل فقط أم أصبحت تتضمّن أيضاً عنصراً جديداً هو عنصر الصداقة؟ أي، هل لا نزال نحب المسيح لأنه غفر خطايانا أم أصبحنا نحبه بسبب العلاقة الاختبارية اليومية المباشرة معه في حياة الإيمان؟ هل نحب المكوث مع يسوع والجلوس تحت ظله؟ هل ثمرته حلوة لنا؟ هل تلتهب قلوبنا في داخلنا في حديثنا معه أم تبقى باردة؟ نعم، يجب أن تكون محبتنا ليسوع حارة، عاطفية... محبة من القلب إلى القلب. إن الجواذب التي تستهوي قلوب المؤمنين في هذه الأيام كثيرة جداً. لذلك قليلون هم الذين يحافظون على قلوبهم ملتهبة في محبة الرب وحده.
قال توزر مرة: ”قليلون هم الذين عندما تجالسهم تشعر أنهم يحبون يسوع“. فهل رائحة محبتك ليسوع منتشرة في ما حولك؟
3- هل خدمتي مملوءة حركة فقط أم بركة أيضاً؟
لا بدّ أن يشعر كل منا، بعد أن يمارس الخدمة مدة من الزمن، أن البركات والنتائج ليست في مستوى قوة الله القادر على كل شيء، إذ يفتقر إلى تلك القوة الإلهية، مسحات الروح القدس، التي ظهرت في التاريخ المقدس في جميع عصوره. هذا الشعور مقدس، وأجزم أنه يتولّد فينا بفعل روح الله لكي نكتفي بما عندنا، وبما أنجزنا، وبما حصلنا عليه إلى الآن، بل نسعى لكي نغترف من كنوز المسيح التي لا تُستقصى ومن غنى مجده الذي لا يُحدّ.
قد تمرّ سنوات ونحن غافلون عن البركات... مخدّرون بالتحركات. نستيقظ فجأة فنجد الوفاض خالياً، والسبب أننا كنا نجمع إلى كيس مثقوب. حركة بلا بركة هي عندما نخدم بلا صلاة، وعندما نبشر بلا دموع، وعندما نصلي بلا إيمان، وعندما نحب بلا تضحية، وعندما نتكلم ولا نفعل، وعندما ننذر ولا نفي، وعندما نعبد بلا احترام، وعندما نطيع بلا رغبة.
لقد اختبر رجل الله مودي الفرق بين الحركة والبركة؛ وإليك ما كتبه في ذلك:
”كنت أسير في مدينة نيويورك يوماً، ويا له من يوم عجيب! لا أستطيع أن أصفه، وقلّما أشير إليه. إن ما اختبرته آنذاك أعتبره مقدّساً لدرجة التحفّظ في إعلانه، وما بوسعي أن أقوله عما اختبرته في ذلك اليوم هو أن الله أعلن نفسه لي وتمتّعت باختبار مجيد لعمق محبته حتى أنني سألته أن يكفّ يده عني لأنني لم أعد أحتمل.
”وذهبت بعد هذا الاختبار لأعظ، فوعظت العظات نفسها وقدّمت الحقائق الكتابية ذاتها ولكن النفوس كانت تخلص بالمئات.
”وأقول: إنني أرفض الرجوع إلى حياة ما قبل هذا الاختبار ولو أُعطيت الدنيا“.
ألا يجعلنا اختبار مودي هذا أن نقتنع بالفرق بين الحركة والبركة؟ إن ما نحتاجه مع الحركة هو انسكاب فيض من الروح القدس والبركات بقوة علينا لكي يتمجد اسم المسيح برجوع الكثيرين إليه.
فهلا رجعنا إلى أنفسنا؟؟