كانون الثاني January 2010
تميز كل جيل بفئات من الناس تبرع في فضح مساوئ الآخرين، وتتفنن في التشهير بغيرهم، وتقف حائلاً دون الخير. ويجعلون من أية قصة نشرة أخبار مفصّلة، ويحوّلون الأسود أبيض والأبيض أسوَداً، ويستخدمون اسم الله باطلاً، وينفث فمهم دائماً تهديداً ووعيداً، وبسببهم يخرج الحكم معوجاً. إنها أزمة أخلاق!...
يذكر كتاب "الدين والسيكولوجيا الحديثة" إن من خصائص الدين الأولى أنه يعاون الإنسان ليكون وحدة مستقلة في مجتمعه، وبالتالي يسمو بنفسه الى حالة من الارتقاء
والعلو النفسي والأدبي، ولا يستطيع غير الدين أن يسد هذا الفراغ. وكيف يكون هذا؟ إن هذا يأتي بنا إلى علم الأخلاق وجوانبه الثلاثة وهي الوصية، والفكر البشري الواعي، ثم الاختبارات القديمة.
ولكن هناك مشكلة تواجه الاجتماعيين؛ مشكلة ترجع الى مصدر الأخلاق: هل تنبع الأخلاق من الفرد أو المجتمع؟ الذين يوجّهون بحوثهم نحو المجتمع يركّزون على الناحية التاريخية ثم الناحية الجغرافية. والمهتمون بالفرد يبحثون في المبادئ التي تنتمي اليها مذاهبهم. وتتعدد مذاهب الأخلاق، فالمذاهب العقلية، والحسية، والعاطفية تبحث في سلوك الفرد. أيهما أولاً، الإنسان أم القرد؟ إن داروين استثنى الإنسان من نظريته في أصل الأنواع، لأن الإنسان لا ينحدر من القردة، لكنه قد يتدنى بأخلاقه الى مستوى القرد. لأن القرد أحياناً يخاطر بحياته لإنقاذ حارسه، بينما قد يستوحش الإنسان فيجد لذة في تعذيب أعدائه دون أن يشعر بوخز الضمير؛ أو قد يعامل الإنسان معاملة الرقيق، بينما هو مستعبد لأشنع الخرافات. وهناك مذاهب تبحث في العقل الأخلاقي نفسه، وتبحث في الجانب النظري للأخلاق، وردها الى سلطة الأديان، أو قيود المجتمع، أو تطور الحضارة، أو سلطان العقل، وما شابه ذلك على أساس أنهم أفراد في المجتمع الكبير.
لكن هناك الأخلاق العلمية - وهي موضوع بحثنا - وتشتمل على الاعتقاد بالخير وجزائه، وتنهي عن الشر، وتحضّ على محبة الحق، وضرورة مصالحة المجموع، وسموّها على مصلحة الفرد. ويقارن علم الأخلاق بين العمل، والأخلاق، والمثل العليا، من حيث إمكانية تحقيق هذا أو التضارب معه، ومع اتفاق العقل أو العمل مع الغاية الأسمى. ولكن نظرية داروين لم تسلم بالفوارق الجوهرية بين قوانين البيولوجيا وبين قوانين الأخلاق، وأهمل داروين غاية الأخلاق السامية.
إن المرأة التائبة في لوقا 21:7-50، في بيت سمعان كسرت أربعة أصنام حتى تابت: صنم الكبرياء لأنها جاءت من وراء متواضعة وباكية، وصنم المال لأنها اشترت بنقودها طيباً غالي الثمن لتسكبه على السيد، وصنم الجمال إذ استخدمت شعرها الجميل في مسح قدمَي المسيح، وصنم النجاسة بالتخلي عن ماضيها الأسود. قال المرنّم:
في الحب تصديق المقال
في الحب صبر واحتمال
في الحب اكليل الجمال
فضل ومجد لا يزال
في الحب أمن ونجاح
في الحب ستر وسماح
في الحب تكميل الصلاح
فالحب يا نعم الوشاح
وترى الأديان لا سيما المسيحية أن هناك فرقاً بين أبحاث الأخلاق والمبدأ الديني في الكتاب المقدس. فمبدأ اللذة يقوم على المنفعة Utilitarianism، لذلك سلوك الكائن الحي يحدده طلب اللذة واجتناب الألم؛ أي يتمشّى مع السلوك الحيوي أو البيولوجي. إنه مبدأ أناني ذاتي لا يمكن تطبيقه. وأن مبدأ الوجودية Existentialism قائم على فكرة الاغتراب والحرية؛ أي تؤكد على حرية الفرد ومسؤوليته، لكن نسى هؤلاء أن النقص ملازم للوجود، والشر يحدّ من حرية الإنسان. وهذا يؤكد أن هناك ثلاثة أمور في طبيعة الإنسان تقوده للتأمل في الأخلاق، وهي طبيعة الكون وأسراره وعظمة الله وحكمته وذلك هو الكمال الأسمى.
والمبدأ الثالث هو الإلحاد أو الأخلاق الحيوانية التي تخص الحيوان الاقتصادي أو أخلاق العمل من خلال المساواة والتعاون والعدالة. لكن الإنسان كجزء من الكون مثلاً، يخضع للمظاهر البيولوجية كإفرازات الغدد، ومظاهره النفسية كالغضب والخوف، فتخضع للعلاقة بين المنبه والاستجابة. أما التصرف ككائن أخلاقي فيتجاوز عالم الظاهر، ويستقل عنها، ويستلزم حرية الإرادة كشرط ضروري، ويرتبط بالفضيلة لنوال السعادة. فالدين في حدود العقل هو الإيمان في حدود الأخلاق. وخلاصة القول أن هناك سلطة داخلية، أو حاسة خلقية، أو ضمير فطري، أو حدس وجداني مصدر للإلزام الخلقي، ولا يعني هذا الإيمان بمذهب ديني طبيعي بلا وحي أو معجزات، بل وجود عقل أخلاقي يحمل في طياته قيمته الأخلاقية. إن العلم والعقل غير كافيين لتحريك الإرادة، لذلك لا بد أن تستند الأخلاق الى العقيدة حتى يكون لها تأثير لصالح السلوك وتبنّي الصلة بين النظر والعمل. وهناك أربعة قواعد هامة لتغيير الأخلاق وهي:
قاعدة التعميم، "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم" (متى 12:7).
وقاعدة الغائيّة "وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب كما للرب ليس للناس" (كولوسي 23:3).
وقاعدة الإستقلال الذاتي في العلاقة ما بين الواجب لذاته والقانون الأخلاقي "فإذاً حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان" (غلاطية 10:6).
وقاعدة التجديد أي قبول المسيح مخلصاً وفادياً "إذاً إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً" (2كورنثوس 17:5).
جاء في بعض الشرائع الدينية الأخرى بعنوان ”الوصايا العشر“ بأن وصايا الله تتلخص في النهي عن الإشراك بالله، والبر بالوالدين، والإحسان بهما، والنهي عن وأد البنات، والنهي عن الفاحشة، وقتل الغضب، والمحافظة على أموال اليتامى، وإيفاء الكيل والميزان والعدل، والوفاء بعهد الله، والتمسك بالشريعة، والعمل بأحكام الدين. وينسب الأخلاق الى الله -عز وجل- والى ضمير غرسه الله في الوجدان البشري... وهذا يتفق مع ما جاء في رسالة العبرانيين 1:6 "لنتقدم الى الكمال". فالباحث عن الحق ينبغي أن يتقدم الى الكمال الذي في المسيح، كمال القداسة والحب والحياة.
قادت الأخلاق العملية كانط الى نظرية "أغلوطتَي الله والنفس"، ولكنه عندما جاء الى المجال الأخلاقي رأى أن الأخلاق الحقة تتطلب ركيزة إلهية ونفساً خالدة، فهل هناك تناقض في الموقف الكانطي؟ كلا! لأن للعقل طريق وللقلب طريق آخر، والعقل يحتاج الى إقامة الدليل وإلى البرهنة، أما القلب فيقبل المسائل قبولاً كلياً دون تمحيص، ويحسّ بنبض الحب بدون مقدمات. وهذا ما أشار اليه ديكارت بأن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الأشياء والنتيجة التي ينتهي إليها.
كان رجل يسير في الطريق ومعه طفلان يبكيان ويتذمران، فسأله شخص آخر: ما علة هذين الطفلين؟ فقال له: هي علة كل إنسان... معي ثلاثة قطع حلوى وكل منهما يريد اثنتين منها.
إن ميزة الأخلاقيات في المسيحية هي أنها ليست أخلاقيات على الإطلاق، فلموسى ناموسه، ولكنفوشيوس نظامه، وللرواقية فلسفتها، ولكل دين شرائعه، أما يسوع المسيح فهو يعطينا بديلاً عن الناموس مثالاً حياً، وعوضاً عن القوانين حياة، وبدلاً عن بنود الفلسفة مناراً منيعاً.
إن مصدر الأخلاق هو المحبة والتضحية؛ "ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه" (يوحنا 13:15)، كما أن المصدر الثاني هو حياة المسيح ومواعظه. ويعتبر الكتاب المقدس أعظم دليل للمشورة النفسية للشباب وحل المشاكل العائلية. ويظل الضمير الخاضع لسماع صوت الله والمنقاد بالروح القدس مبعثاً للأخلاق الضرورية لتصحيح المجتمع وتفهُّم مشيئة الله. إن البعد عن دائرة الحق تحت ستار الحرية يعرّض الإنسان للمهالك والشر وغضب الله، وهذه دعوة صريحة للتحرر من الباطل، والفساد، والمعاشرات الرديئة، والخلاعة، والتبرج، والتهور، والمجون، "لأن أجرة الخطية هي موت أما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا" (رومية 23:6).
يوجد رسم فرعوني يرمز الى عدل الله وأن عينه ترى كل شيء - عبارة عن صورة لعين كبيرة وتحتها صولجان - فالرب يراقب كل شيء حتى المُمسكين بصولجان الحكم. "إذا رأيت الظلم ونزع الحق.. فلا ترتاع لأن فوق العالي عالياً والأعلى فوقهما يلاحظ" (جامعة 8:5).