أيار May 2010
ينظر الكثيرون إلى المسيحية بحق أنها مصدر رئيسي للحث على أعمال الخير والإحسان. وقد تميزت المسيحية عبر قرون عديدة، بأعمال الإحسان الكثيرة التي يقوم بها المسيحيون. فتأسست الجمعيات الخيرية التي لا تعد ولا تُحصى. وتم فتح المستشفيات، وتشييد المدارس والجامعات. وامتد الأمر ليشمل مساعدة المدمنين على المخدرات والمسكر وعلاجهم، وإعادة تأهليهم مرة أخرى في المجتمع. لا بل ترافق العمل الإرسالي نحو مختلف بلدان العالم بهذه المظاهر نفسها. ففتحت الإرساليات المستشفيات، وأسست المدارس والجامعات، في العديد من البلدان. ويعترف الكثيرون في البلدان النامية بالدور الكبير الذي قامت وما زالت تقوم به هذه المؤسسات في تقدم المجتمع ونموه.
وكثيراً ما نسمع المسيحيين يتحدثون عن أعمال الخير والإحسان وأهميتهما. وترى الناس هنا في الولايات المتحدة الأميركية يتبرعون وبكثرة إلى الجمعيات والمؤسسات الخيرية. وما أن تحدث كارثة كبرى، كالزلازل والأعاصير والفيضانات، في أية منطقة في العالم، حتى ترى الجميع يتسابقون على إرسال التبرعات من مال وطعام وثياب.
لكن مما يؤسف له أنه من النادر أن نسمع أحدهم يتحدث عن العدل وضرورته. وأن العدل يستند على أساس أن الله خالقنا هو إله عادل. وأن الكتاب المقدس ينادي بالعدل ويدعو إلى إحقاقه. لا بل إن فكرة الإحسان في المسيحية، قد انطلقت أساساً من مبدأ العدل وضرورة إحقاقه. وغدا الأمر وكأن المسيحية مجرد جمعية خيرية كبرى، لا علاقة لها بمبدأ العدل، وأن الله عادل. والأمر المستغرب هو أن نسمع البعض يهاجم مشاريع القوانين الاجتماعية التي تحاول الحكومات سنّها، والتي تسعى إلى تحقيق جزء يسير من العدالة في المجتمع. لكن الأمر الأعجب أن يدّعي هؤلاء أن هذه القوانين هي ضد تعاليم الكتاب المقدس والمسيحية. ويشنون الحملات العنيفة ضد أي قانون يهدف للسير نحو تأمين العدالة، أو مساعدة الفقراء والمظلومين في المجتمع.
لو عدنا إلى العهد القديم من الكتاب المقدس، لوجدنا أن الله كان يحث دائماً الشعب القديم على تحقيق العدل في المجتمع. وأن من أسباب إدانة الله الأساسية للشعب القديم هو إهمالهم لمبدأ تحقيق العدل، واستفحال الظلم في مجتمعهم. ولن أورد بالطبع الآيات التي تتحدث عن أن الله هو إله عادل، إذ أننا جميعاً متفقون حول هذا الأمر.
جاء في سفر التثنية ما يلي: "قضاة وعرفاء تجعل لك في جميع أبوابك التي يعطيك الرب إلهك حسب أسباطك فيقضون للشعب قضاء عادلاً.. العدل العدل تتبع لكي تحيا وتمتلك الأرض التي يعطيك الرب إلهك" (تثنية18:16، 20). "لا تظلم أجيراً مسكيناً وفقيراً من إخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك. في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس، لأنه فقير وإليها حامل نفسه لئلا يصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطية.. لا تعوّج حكم الغريب واليتيم ولا تسترهن ثوب الأرملة" (تثنية 14:24-15، 17). ونصحت والدة لموئيل الملك ابنها قائلة: "افتح فمك. اقض بالعدل وحام عن الفقير والمسكين" (أمثال9:31). وكتب النبي إشعياء: "هكذا قال الرب. احفظوا الحق واجروا العدل.." (إشعياء 1:56). وكتب النبي إرميا: "هكذا قال الرب أجروا حقاً وعدلاً وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة، لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دماً زكيّا في هذا الموضع... وإن لم تسمعوا لهذه الكلمات فقد أقسمت بنفسي يقول الرب إن هذا البيت يكون خراباً" (إرميا 3:22، 5).
وكان من الأسباب الرئيسية لإدانة الله للشعب قديماً هو إهمالهم لموضوع إحقاق العدل في المجتمع. نقرأ في سفر إشعياء هذه الآيات: "ويل للذين يقضون أقضية البُطل وللكتبة الذين يسجّلون جوراً، ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حقّ بائسي شعبي لتكون الأرامل غنيمتهم وينهبوا الأيتام. وماذا تفعلون في يوم العقاب حيث تأتي التهلكة من بعيد. إلى متى تهربون للمعونة وأين تتركون مجدكم"
(إشعياء 1:10-3). وفي نفس المعنى كتب النبي إرميا قائلاً: "ويلٌ لمن يبني بيته بغير عدل وعلاليه بغير حق، الذي يستخدم صاحبه مجاناً ولا يعطيه أجرته" (إرميا 13:22). أما النبي عاموس فلقد تحدث عن إدانة الله للشعب قديماً، بسبب المظالم التي تحصل، ودعاهم لكي يجروا الحق والعدل ثم قال: "وليجر الحق كالمياه والبر كنهر دائم" (عاموس 27:5). وكتب النبي ميخا قائلاً: "قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يطلبه منك الرب، ألا أن تصنع الحقّ وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك" (ميخا 8:6).
وكانت أهم نبوءة عن المسيح المخلص والملك الآتي هو أنه: "هوذا بالعدل يملك ملك.." (إشعياء1:32أ)، وأيضاً: "بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالانصاف لبائسي الأرض.." (إشعياء4:11). ولقد حثّنا العهد الجديد على محاربة الاستغلال، وتجنب الربح القبيح، وعدم محبة المال، لا بل اعتبر محبة المال أصل لكل الشرور (1تيموثاوس6:6-11) أي على عكس المفاهيم السائدة في المجتمع.
تحدثت سارة كروفز Sara Groves عن اختبارها، وهي ناشطة في مجال دعم الأطفال والعدالة الاجتماعية فقالت: "لقد استغرق الأمر حتى عام 2005 وأثناء زيارتي لراوندا مع القس Rick Warren وفريق من كنيسة Saddleback لكي أدرك الحقيقة التي بدّلت حياتي. لقد اكتشفت أنه يوجد فرق كبير بين أعمال الإحسان من جهة والعدالة من جهة أخرى. لقد كنت أنطلق في عملي نحو إفريقيا على أساس الإحسان، لكن الله كسر قلبي وكشف لي عن وجود الكثير من عدم العدالة هناك." وكان نتيجة ذلك أن بدأت سارة مع فريق العمل بالقيام بخطوات عملية لتحقيق العدالة الاجتماعية.
إذا كنا نؤمن بالعدل حقاً علينا أن نقوم بخطوات إيجابية تجاه هذا الأمر. وأن نرحب بأية خطوة تهدف لتحقيقه في مجتمعنا. لكن الذي يحصل مع الأسف هو شن البعض حملة شعواء ضد أي مشروع قانون يهدف للحد من المظالم، أو لإنصاف الغالبية في المجتمع، وكأنه أصبح أمراً معادياً لكلمة الله والمسيحية الحقة. وهنا نتساءل لماذا هذا الموقف المعادي؟ ومن أين استمد هؤلاء موقفهم هذا؟ وما هي الآيات الكتابية التي يستندون إليها؟ يبدو واضحاً أن ادعاءهم هذا لا علاقة له بالكتاب المقدس ولا بالمسيحية، لكنه يرتبط وبشكل مباشر بالمفاهيم الخاطئة السائدة في المجتمع المادي، ومفهوم الربح القبيح غير المشروع. وأحياناً – مع الأسف - بمصالحهم الاقتصادية الضيقة، التي هي بعيدة كل البعد عن مفهوم العدل كما جاء في الكتاب المقدس.
كتب أحدهم يقول: "إن العدالة هي صوت النفير لكل المسيحيين. لا نستطيع أن نقف جانباً من دعوة الله لنا: لقد أخبرنا كيف يجب أن نعامل جيراننا، (أي المجتمع الذي نعيش فيه) وعلينا أن نسير في الطريق الذي خطّه أمامنا." فهل ترانا نلبي النداء؟