أيار May 2010
أطلب إِلَيْكَ لأَجْلِ ابْنِي أُنِسِيمُسَ، الَّذِي وَلَدْتُهُ فِي قُيُودِي، الَّذِي كَانَ قَبْلاً غَيْرَ نَافِعٍ لَكَ، وَلكِنَّهُ الآنَ نَافِعٌ لَكَ وَلِي (فليمون 10 و11).
عندما قرأت الرسالة إلى فليمون لأول مرة، أعترفُ لحضراتكم أنني لم أفهم الموضوع الذي يدور حوله حديث الوحي المقدس، فلجأت إلى قاموس الكتاب المقدس وبعض التفاسير، فاتضحت أمامي بعض الحقائق؛ فأنسيمس هو عبد اشتراه سيده فليمون الرجل التقي الذي كان قد حوّل بيته كنيسة، ولأن أنسيمس هذا كان شريراً فلم يجد راحته في بيت تحوّل إلى مكان للعبادة، ففكر أن يهرب من هذا الجو غير المناسب إلى مكان آخر. فأغواه الشيطان أن لا يخرج بيد خالية، فأخذ معه ما خفّ حمله وغلا ثمنه، وهرب إلى روما. وهناك التقى ببولس.
لم يذكر لنا الوحي كيف تم هذا اللقاء. قال بعض المفسرين إن بولس استأجر بيتاً ليقيم فيه. وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه. فكان أن أُودع أنسيمس في السجن بعد أن تم القبض عليه. وكان بولس مسجوناً في ذلك المكان. والحقيقة أنه لا يهمنا كيف تقابلا، لكن المهم هو نتيجة هذه المقابلة إذ أسفرت عن تجديد أنسيمس ليتحوّل إلى خليقة جديدة في المسيح.. وكان بولس يريد الإبقاء على أنسيمس ليخدمه، ولكن أراد أن يأخذ برأي فليمون أولاً، فكتب إليه هذه الرسالة الصغيرة في حجمها، ولكنها غنية بما تحتوي من نعم وبركات.. فيها طلب بولس من فليمون أن يقبل أنسيمس لا كعبد بل كأخ محبوب، لأنه لم يكن قبلاً نافعاً له أما الآن فنافع لكل من بولس وفليمون. وللفائدة نتأمل بما يلي:
أولاً: حياة متمردة
ثانياً: نعمة مجددة
ثالثاً: شهادة مؤكدة
أولاً: حياة متمردة
1- أجواء العبادة لم يحتملها
كان المؤمنون يجتمعون في بيت فليمون.. تعطّر ترنيماتهم جو البيت، وصلواتهم تهزّ المكان، والعظات القوية تبني النفوس وتنميها... هذا الجو الروحي العظيم لم يحتمله أنسيمس لأن طبيعته مختلفة تماماً عن هذا الجو.. وأتخيّله آنذاك متبرماً، وقد أخذ منه الضيق كل مأخذ فيتحرّك ويترك مكانه متظاهراً بأنه سيفعل أمراً لا يحتمل التأجيل.
وحتى يومنا هذا توجد هذه النوعية من البشر التي لا تحتمل الوجود في جو العبادة، فيهجرونها وإن وجدوا بسبب أو آخر، فإنهم ينظرون إلى ساعاتهم كل بضع دقائق إن لم يكن كل دقيقة... يتمايلون ويتأففون وتظهر عليهم علامات الضيق، بينما يجلسون أمام التلفاز لساعات طويلة دون حركة أو ملل أو كلل.
2- شركة المؤمنين لا يقبلها
لم يقبل أنسيمس أن تكون له شركة بجماعة المؤمنين الذين يجتمعون يومياً في بيت فليمون.. وذلك لأن رأيه يخالف رأيهم وأسلوبه يتعارض مع أسلوبهم، وأهدافه لا تلتقي بأهدافهم، وفعلاً كما يقول الكتاب: "أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟ ".
3- الجريمة التي ارتكبها
هرب أنسيمس بعد أن سرق بعضاً من مقتنيات سيده فليمون.. ولست أدري هل هذه هي المرة الأولى التي يرتكب فيها جريمة السرقة أم حدثت قبل ذلك عندما كان يخدم سيده الأول، ولم يستطع أن يهرب ففكر سيده في بيعه دون أن يذكر شيئاً عن سرقته حتى يستفيد مادياً من بيعه.
والشيء الذي لا يجب أن يفوتنا أن السرقة ليست هي جريمة اللص الوحيدة، بل قد يرتكب جريمة قتل في حالة اكتشافه وهو يسرق كما قال السيد المسيح: "اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ".
ثانيًا: نعمة مجددة
السؤال الذي يقدَّم هنا هو: هل إنسان شرير مثل أنسيمس يمكن أن تغيره النعمة؟ نعم، وقد تم هذا فعلاً في ثلاثة خطوات:
1- مقابلة ولقاء
رتب الرب بالروح القدس أن يلتقي بولس بأنسيمس لقاءً تم بين نقيضين: بولس عبد يسوع المسيح وأنسيمس عبد لإبليس. بولس قديس وأنسيمس شرير.. بولس نور أما أنسيمس فظلمة.. بولس أمين وأنسيمس لص.. بولس داخل دائرة الإيمان أما أنسيمس فبعيد عنها تماماً.. لقد وضع الروح القدس أنسيمس في طريق بولس...
كم من المرات يضع روح الرب الخطاة في طريقنا ونحن لا نستغلّ الفرصة.. أليس علينا منذ الآن أن ننتبه إلى هذا ولا ندع الفرصة تفوتنا؟ فإن مهمتنا الأولى بعد تجديدنا هو الإتيان بالنفوس للرب يسوع المسيح.
2- حديث الرجاء
تحدث الرسول بولس مع أنسيمس عن الرب يسوع وخلاصه العجيب، وقدّم له رسالة مكتملة... والسؤال الذي يبرز أمامنا هو: هل لم يسمع أنسيمس عن الرب وهو في بيت فليمون؟ لا شك أنه كان يشغل نفسه عن الاستماع للخدمات الروحية التي كانت تقدَّم في بيت فليمون. وربما سمع هذه الكلمات من قبل عدة مرات. لكن، كان يهرب من المسؤولية مدّعياً أن هذه الرسائل يخصّ بها الرب آخرين. لكن، عندما تحدث بولس إليه فقط لم يستطع الهروب! وهذا يرينا أهمية العمل الفردي.
غرقت سفينة تيتانيك عام 1912 ونجا منها اثنان أحدهما هو جون هاربر الرجل التقي والآخر اسكتلندي لم يتعرف على الرب من قبل. فحدّثه هاربر عن الخلاص وقدم له رسالة كاملة، سلم الاسكتلندي حياته للرب. بعدها جاءت موجة وقلبت قطعة الخشب التي كان يستخدمها هاربر ومات! ما أجمل أن يكون آخر عمل نعمله هو قيادة الآخرين للمسيح.
3- قبول والتجاء
كانت كلمات بولس التي وجهها إلى أنسيمس مصحوبة بقوة الروح القدس، فدخلت إلى قلب أنسيمس كسهام مبرية فأثّرت فيه تأثيراً شديداً فسلم حياته للمسيح تسليماً كلياً.. يا لغنى النعمة العظيمة التي تغيّر القلوب الحجرية، وتبدّلها بقلوب لحمية! عندما يكون المتحدث بكلمة الرب ممتلئاً من الروح القدس ستأتي رسالته وتقع على أرض جيدة فتثمر، ولكن من يتحدث بدون قوة الروح القدس ستكون رسالته مثل نحاس يطن أو صنجاً يرن.
حقاً ما أعجب النعمة!!
ثالثاً، الشهادة المؤكِّدة
قدّم الرسول بولس شهادة ثلاثية أكّد فيها خلاص وتجديد أنسيمس.
1- بنوّة روحية
"أَطْلُبُ إِلَيْكَ لأَجْلِ ابْنِي أُنِسِيمُسَ، الَّذِي وَلَدْتُهُ فِي قُيُودِي".. وأنسيمس ليس هو الابن الوحيد لبولس. فقد كان تيموثاوس ابناً له. "تِيمُوثَاوُسَ، الَّذِي هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ". ويقول بولس للغلاطيين: "يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ". ويقول لمؤمني كنيسة كورنثوس: "لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ". إن أنسيمس ليس ابناً لبولس فقط لكن ابناً لله "اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ".
2- أخوّة قدّيسة
يقول الرسول بولس لفليمون: "رُبَّمَا لأَجْلِ هذَا افْتَرَقَ عَنْكَ إِلَى سَاعَةٍ، لِكَيْ يَكُونَ لَكَ إِلَى الأَبَدِ، لاَ كَعَبْدٍ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ أَفْضَلَ مِنْ عَبْدٍ: أَخًا مَحْبُوبًا، وَلاَ سِيَّمَا إِلَيَّ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ إِلَيْكَ".
اللص يصير أخاً للمؤمنين وليس للمؤمنين فقط بل أخاً للرب "لأَنَّ الْمُقَدِّسَ وَالْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهذَا السَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً، قَائِلاً: أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ".
3- مقارنة قوية
لكن يؤكد الرسول بولس خلاص وتجديد أنسيمس وقام بمقارنة بين ماضيه وحاضره: "الَّذِي كَانَ قَبْلاً غَيْرَ نَافِعٍ لَكَ، وَلكِنَّهُ الآنَ نَافِعٌ لَكَ وَلِي". الإنسان الذي يقبل المسيح مخلصاً يتغيّر تغييراً جذرياً وكلياً، "الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا".
هل تقابلت مع المسيح وصرت خليقة جديدة؟ أهنّئك إن كنت قد فعلت هذا، وإن لم تفعل، فاقبل إليه وهو الذي قال "مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا".