آب Agust 2010
وضَع الحبلَ حول عنقه، وراح يشدّه رويدًا رويدًا، عسى أن يشعر بالإثارة والنشوة التي تنتاب زملاءه الذين سبقوه إليها. ولمَّا ازداد ضغط الحبل على مجرى التنفس أضحى بحالة من الاسترخاء واعترتْه مشاعر لا تمتُّ إلى عالمه بصلة، هذه دغدغتْ كيانه الداخلي فأحسَّ معها بالسموِّ والارتقاء. وما هي إلا لحيظات قصيرة حتى تحوّل الانتشاء هذا إلى شبهِ اختناق. وللوقت حاول تحرير عنقه من ضغط الحبل عليها ففشل. فراح يضرب صدره بيديه ضربات قوية عساه يتخلّص من شبه الغيبوبة التي وقع فيها لكنّه بدا كَمَن يصارع الهواء، وعبثًا كانت محاولاته لإرجاع نفسه
إلى عالم الوعي، وهكذا دخل في حالة اللاوعي الكامل. لقد زجَّ جسده ونفسه وروحه في غيبوبة الموت الرهيبة. ودُعي للحال فريق الإسعاف الذي أتى على جناح السرعة لنجدته، لكنه للأسف لم يستطع أن يفعل شيئًًا لإنقاذه. وتوفي المراهق الشاب بعد يومين فقط في المستشفى، حين تقرَّر إيقاف جهاز التنفس الآلي عنه. نعم، لقد مات المراهق ميتةً عشواء إثرَ لعبة شعواء، وهو في عمرٍ يناهز الاثنتي عشرة سنة. هذا ما صرَّح به قسم الشرطة في مدينة سانتا مونيكا في جنوبي كاليفورنيا منذ مدة قصيرة فقط.
نعم إنها لعبة الاختناق Chocking game ، أو فقدان الوعيBlackout . هي لعبة خطرة جداً يلعبها المراهقون بين بعضهم البعض أو على مواقع الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) فيعرضونها على صفحاتهم الخاصة لكي يُروا كل من يبحث أو يفتش عن الانتشاء والشعور بالإثارة ليتعلّم منهم ويحذو حذوهم. ويفكر المراهق الذي يمارس هذه اللعبة، بأنَّه لن يموت ظنًا منه أنه مسيطر على الوضع ومتحكّم تمامًا في اللعبة، خاصة أنّ كل ما يفعله هو مجرد الشعور بالانتشاء والارتقاء إلى عالم آخر وبشكل طبيعي أي دون أن يتناول الكحول أو المخدرات. ويحفِّز هذا المشهد أو الفيديو الفضوليين من المراهقين على تجربة هذه الطريقة التي يطلقون عليها الطريقة الطبيعية في الحصول على النشوة. إنها بالحق لقاءٌ وجهًا لوجه مع الموت لا مزاح فيه. ولقد ورد تقرير قبل سنتين أعدّته مراكز الوقاية من الأوبئة والأمراض يقول بأن اثنين وثمانين شخصًا قد لقَوا حتفهم من جراء هذه اللعبة وما شابهها من تجارب وأنشطة. أما نتائج الاستطلاع الأخير الذي أُجري في ولاية أوريغونOregon هذه السنة، فهي أن واحدًا من بين كل ثلاثة طلاب في الصف الثامن الإعدادي قد سمع بهذه اللعبة وأن واحدًا من بين كل عشرين طالبًا قام بتجربتها على نفسه. وهذه اللعبة ليست جديدة كما يعلّق أحد الكتّاب، بل هي قديمة ومعروفة في تاريخ البشر. فعندما يمنع المرء الأوكسيجين عن الوصول إلى الدّماغ يشعر بما يسمى ب Euphoria أي تعتريه الخفة (السمو)، وبكلمات أخرى إنها تجربة الارتقاء إلى العلاء High.
وهكذا نجد في عالم الشبكة العنكبوتية الواسع ما هبَّ ودبَّ من معلومات وممارسات ومعروضات وألعاب، منها الحسن ومنها الرديء، ومنها المميت أيضًا. وفي مجتمع باتَ فيه كل شيء مُشاعًا وشائعًا وما من خفيٍّ يُخفى، نجد أولادنا وأحباءنا ينخرطون فيه وينجرفون إليه وكأنما بسحر ساحر. فنراهم يؤخذون بما يرون، وينبهرون بما يشاهدون ويسمعون على الانترنت. وبعد فترة نفاجأ نحن الأهلين حين نجدهم يجرِّبون ما انغرس في ذاكرتهم الغضَّة الطرية، غير عالمين نتائج اختباراتهم غير المستحبَّة أو ربما المميتة في بعض الأحيان كما حدث مع هذا الفتى. وهكذا ينجذبون بسبب طبيعتهم الجسدية إلى الإغراءات المعروضة عليهم في صفحات المواقع التي لا حصرَ لها. نعم يحدث كل هذا ونحن الأهلين لاهون عنهم بأعمالنا وأشغالنا ومواعيدنا المتلاحقة وقضايانا المستعجلة. وننسى أو نتناسى أنَّ الشر مستفحل حولنا، والأشرار جادُّون في اتِّباع الوسائل كافة لكي يختطفوا أولادنا من غرفِنا، وبيوتنا، ودون أن نعلم.
فبالإضافة إلى لعبة الاختناق أو لعبة الارتقاء والانتشاء، أو لعبة الموت الدارجة والرائجة اليوم، هناك الكثير من الألعاب التي لا ندرك معناها ولا نفقهُ مغزاها. تظهر لنا بحلّة جميلة بريئة وبسيطة، لكن تحمل في طياتها كلامًا بذيئًا، سرعان ما ينضم إلى قاموس الكلام عند أولادنا. كما تحمل إليهم عادات فاسدة سرعانَ ما يتبنُّونها في سلوكياتهم. ونتوقف لنسأل:
من أين لكَ هذا يا ابني؟ وأنتِ يا ابنتي؟ من أين تعلمتما هذا، أمِنَ المدرسة؟ كلاّ، من الانترنيت في البيت. هكذا يأتينا الجواب.
فهل نراقب أولادنا فلذات أكبادنا وهم يتنقّلون من موقع إلى آخر على الشبكة العنكبوتية؟ وهل نهتم بما يشاهدون على هذه المواقع؟ ثم هل نحدِّد لهم الوقت يوميًا أم نتركهم يلعبون بحسب أهوائهم، ألعابًا على الكمبيوتر كما يشاؤون وفي الوقت الذي يريدون؟ هل وضعنا لهم حدودًا أم أنهم هم الذين يتحكّمون بنا؟ هذا هو تحدّي القرن الحادي والعشرين لكل أب وأم. وأنا هنا لست بمعرض التخويف والترهيب، لكنني إذ أرى بأم عينيّ الآثار السلبية في الأولاد من حولي، يحزّ في نفسي الأمر جدًا وأرى الخطر لا بل الأذى الكبير المحدق بهم. فلقد وجد بحث صيني أن المراهقين المدمنين على الإنترنت معرّضون أكثر، وبواقع الضعف، لإلحاق الأذى بأنفسهم أكثر من سواهم. وأظهرت الدراسة أن حوالي 16٪ من المجموعة التي خضعت للدراسة قد ألحقوا الأذى فعلا بأنفسهم بطريقة أو بأخرى. وتعريف إيذاء النفس بحسب الإحصائية يشمل شدّ الشعر، والضرب، والحرق المتعمّد، والقرص. كما أن المراهقين المدمنين يعانون من مشاكل نفسية مثل الاكتئاب والعصبية. ووجدت دراسة أمريكية أن بعض الأطفال والمراهقين عرضة أكثر من سواهم للإدمان بسبب أنهم عدائيون وبعضهم يعاني من الاكتئاب والخوف من الانخراط في المجتمع. أجل، يصبح الفتى أو الفتاة، عصبيًا مزاجيًا وغير مؤهل لكي يُجري محادثة عادية مع الناس من حوله.
ماذا تخبرنا كلمة الله في هذا الصدد؟ ليس في صدد الإنترنت والكمبيوتر والفيس بوك والتويتر واليوتيوب وما أشبه، بل في منحى مسؤوليتنا كأهلين؟ هل نصرف الوقت مع أولادنا الذين أوكلنا الله عليهم؟ وهل نريهم الأخطار والخطية المحيطة بهم بسهولة؟ وهل ترانا نذكّرهم ونعلّمهم كلمة الله، هذا السراج المنير في عالم مظلم؟
يقول سليمان الحكيم شاهداً عن تأثير تعليم أبيه داود في حياته:
"فَإِنِّي كُنْتُ ابْنًا لأَبِي، غَضًّا وَوَحِيدًا عِنْدَ أُمِّي، وَكَانَ يُرِينِي وَيَقُولُ لِي: لِيَضْبِطْ قَلْبُكَ كَلاَمِي. احْفَظْ وَصَايَايَ فَتَحْيَا اِقْتَنِ الْحِكْمَةَ. اقْتَنِ الْفَهْمَ. لاَ تَنْسَ وَلاَ تُعْرِضْ عَنْ كَلِمَاتِ فَمِي لاَ تَتْرُكْهَا فَتَحْفَظَكَ. أَحْبِبْهَا فَتَصُونَكَ الْحِكْمَةُ هِيَ الرَّأْسُ. فَاقْتَنِ الْحِكْمَةَ، وَبِكُلِّ مُقْتَنَاكَ اقْتَنِ الْفَهْمَ ارْفَعْهَا فَتُعَلِّيَكَ. تُمَجِّدُكَ إِذَا اعْتَنَقْتَهَا. تُعْطِي رَأْسَكَ إِكْلِيلَ نِعْمَةٍ. تَاجَ جَمَال تَمْنَحُكَ اِسْمَعْ يَا ابْنِي وَاقْبَلْ أَقْوَالِي، فَتَكْثُرَ سِنُو حَيَاتِكَ. اِسْمَعْ يَا ابْنِي وَاقْبَلْ أَقْوَالِي، فَتَكْثُرَ سِنُو حَيَاتِكَ. إِذَا سِرْتَ فَلاَ تَضِيقُ خَطَوَاتُكَ، وَإِذَا سَعَيْتَ فَلاَ تَعْثُرُ. تَمَسَّكْ بِالأَدَبِ، لاَ تَرْخِهِ. احْفَظْهُ فَإِنَّهُ هُوَ حَيَاتُكَ. لاَ تَدْخُلْ فِي سَبِيلِ الأَشْرَارِ، وَلاَ تَسِرْ فِي طَرِيقِ الأَثَمَةِ. تَنَكَّبْ عَنْهُ. لاَ تَمُرَّ بِهِ. حِدْ عَنْهُ وَاعْبُرْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَنَامُونَ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا سُوءًا، وَيُنْزَعُ نَوْمُهُمْ إِنْ لَمْ يُسْقِطُوا أَحَدًا لأَنَّهُمْ يَطْعَمُونَ خُبْزَ الشَّرِّ، وَيَشْرَبُونَ خَمْرَ الظُّلْمِ. أَمَّا سَبِيلُ الصِّدِّيقِينَ فَكَنُورٍ مُشْرِق، يَتَزَايَدُ وَيُنِيرُ إِلَى النَّهَارِ الْكَامِلِ. أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَكَالظَّلاَمِ. لاَ يَعْلَمُونَ مَا يَعْثُرُونَ بِهِ" (أمثال 4: 3- 19).
إزاء ما عرضته في هذا المقال، ما أحرانا أن نهبَّ لانتشال أولادنا وإنقاذ فلذات أكبادنا من الضياع والانجرار وراء تيارات التكنولوجيا السريعة والجارفة. فنضع حدودًا لهم، ونراقبهم، ونفتح أعيننا لنلاحظ وننتبه إلى كل ما يتعرّضون له. وبالطبع أنا لست هنا بمعرض القدح والذم في التكنولوجيا والتطور، كلا أبدًا. بل أنا حريصة كل الحرص على أجيال المستقبل لكي تعرف وتعي المزالق الحقيقية المتَسَتِّرة ربما وراء كل المعروضات والممارسات وحتى المعلومات التي يمكن أن ينجرُّوا وراءها.
فيا ليتنا نملأ عقولهم وقلوبهم بسراج كلمة الله المنير لأنَّ هذا هو أعظم استثمارٍ يمكن أن نقوم به على هذه الأرض.