آب Agust 2010
سؤال مطروح أمامي يقول:
نفهم أن أتباع المسيح عبر العصور قد آمنوا به ربًا تجسد على الأرض بالهيئة التي عُرف بها المسيح، إنما السؤال:
هل قَبِل المسيح هذا المعتقد أم كان له رأيًا آخر؟
فنقول ردًا على هذا:
إن قراء الإنجيل يلاحظون بوضوحٍ أن المسيح في جميع أعماله وأقواله وخطبه وتعاليمه كان مع هذا الرأي، داعمًا بأسلوب مباشر وغير مباشر أنه هو الله الظاهر بالجسد. وإلى من يهمه الأمر فإليه الملاحظات التالية:
أولاً: نسبَ المسيح الأزلية لذاته في اكثر من مناسبة
حين خاطب المسيح اليهود في يوحنا الأصحاح الثامن أثناء جدالهم معه بخصوص إبراهيم أبيهم، قال: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن". ثم أثناء العشاء الأخير مع تلاميذه خاطب المسيح الآب السماوي قائلاً: "مجدني أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم".
وفي متى أصحاح 28، يخاطب المسيح أتباعه قائلاً: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر". فهو هنا أزلي وأبدي.
وفي متى أصحاح 25، يوضّح المسيح أنه سيدين شعوب الأرض بالعدل في يوم الدين فيبارك الذين عن يمينه ويحكم بالنار الأبدية على الذين عن يساره.
فمن هذه المواقف المتعددة نلاحظ أن المسيح أزلي، كائن من قبل أن يكون ابراهيم، ثم هو أزلي أبدي إذ وعد بأن يكون مع محبيه بشكلٍ دائمٍ إلى انقضاء الدهر. ومن ثم هو من سيدين المسكونة بالعدل في يوم الدين، مع علمنا جميعًا أن الديان الأوحد هو الله.
ثانيًا: المسيح قادر على كل شيء
أوضَحَ المسيح أنه قادر على كل شيء، وأنه مع الآب السماوي يقيم الموتى ويحيي من يشاء (هذا في يوحنا الأصحاح الخامس).
أما في يوحنا الأصحاح العاشر، فالمسيح يؤكد على سلطانه المطلق فيشير إلى حتمية موته الطوعي المزمع أن يكون على الصليب، وقيامته بعد الموت فيقول: "لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي، لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضًا".
وفي يوحنا أصحاح 11 يؤكد لمرثا أخت لعازر الذي مات - وكان له أربعة أيام في القبر - أنه سيقيمه فقال لها: "أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا".
ثالثًا: المسيح عالِمٌ بكل شيء
نسب المسيح لنفسه أنه عالمٌ بالخفايا ونوايا القلوب. ففي إنجيل مرقس أصحاح 2 وبّخ جماعة الكتبة على أفكارٍ كانت تجول في قلوبهم فأنّبهم عليها قائلاً: لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم؟
وفي إنجيل يوحنا الأصحاح الأول سأله نثنائيل... الذي لم يكن يعرف المسيح من قبل ولم يلتقِ به: "من أين تعرفني؟ فرد عليه المسيح: قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة رأيتك". فذهل الرجل وآمن بالمسيح وصار من أتباعه.
رابعًا: المسيح لا يحدّه زمان ومكان
أوضح المسيح أن وجوده لا يحده الزمان ولا المكان حين قال لنيقوديموس عن نفسه: "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الانسان الذي هو في السماء"
(إنجيل يوحنا أصحاح 3).
خامسًا: المسيح قَبل السجود لشخصه
ولعل هذه هي من أهم الملاحظات أنّ المسيح قَبِلَ السجود لشخصه في مواقف متعددة منها:
في متى أصحاح 8 إذ سجد له الأبرص قائلاً: "يا سيد، إن أردت تقدر أن تطهرني. فمد يسوع يده ولمسه قائلاً: أريد فاطهر. وللوقت طهر الأبرص". ولم يعترض المسيح على سجوده له.
وفي إنجيل متى الأصحاح التاسع جاء إليه رئيس ديني يهودي وسجد له قائلاً: "إن ابنتي الآن ماتت لكن تعال وضع يدك عليها فتحيا... فحضر المسيح وأمسك بيد الصبية الميتة فقامت في الحال".
وفي متى أصحاح 14 كان تلاميذه قد استقلوا سفينة في بحيرة طبريا فهاج عليهم البحر بريح عاصفة، فجاءهم المسيح في عتمة الليل ماشيًا على مياه البحر برجليه، ولما دخل السفينة سكنت الريح على الفور فذُهلوا وقاموا وسجدوا له.
وفي يوم قيامته من القبر في صباح الأحد باكرًا جاءت مجموعة من النسوة المؤمنات بينهن مريم المجدلية لزيارة القبر ولم يكن قد وصل إليهن خبر قيامته.. فظهر لهن المسيح فجأة، ولما عرفنه اقتربن منه وسجدن له. وفي جميع هذه الحالات لم يرفض المسيح السجود لشخصه.
ولا بد من التذكير هنا أن كل حالات السجود التي أشرنا إليها كانت تعني العبادة، ومنها (على سبيل التوضيح) عندما ظهر المسيح لجماعة التلاميذ وبينهم توما بعد أسبوع من حدث القيامة، عاتب المسيح توما على شكِّه لأنه لم يصدق التلاميذ حين أخبروه أن المسيح قام.. فخجل توما وقام وسجد للمسيح قائلاً له: "ربي وإلهي".
نقول كل هذا ونحن نعلم أن المسيح نفسه قد نهى عن السجود لغير الله إذ قال: "للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد".
أولاً: حرّم المسيح السجود لغير الله لكنه قَبِله لنفسه.
ثم ثانيًا: فهو بذلك أكّد على وحدانية الله الذي له وحده ينبغي السجود.
ويلاحظ أنّ هذا التعليم استمر في حياة رسل المسيح وأتباعه فيما بعد.
والإنجيل قدّم مواقف عدة تظهر ذلك منها ما يلي:
1- بطرس الرسول في سفر أعمال الرسل أصحاح 10، عندما استقبله كرنيليوس الضابط الروماني - غير المسيحي - عند مدخل بيته، سجد كرنيليوس لبطرس، فأنهضه بطرس قائلاً: "قم فأنا أيضًا إنسان".
2- وفي مشهدٍ لبولس الرسول ومعه برنابا في سفر الأعمال أصحاح 14 بعد أن صنعا معجزة شفاء في مدينة لسترا أقاما بها رجلاً مقعدًا منذ ولادته.. فالمعجزة أثارت مشاعر الكهنة الوثنيين في المدينة فقالوا: "إن الآلهة نزلت إلينا وتمثلت بالناس". فهمّوا بعبادة بولس وسيلا. فمزّق هذين ثيابهما وصرخا في الجموع قائلَين: "لماذا تفعلون هذا؟ نحن أيضًا بشر تحت الآلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها".
3- وفي سفر الرؤيا، آخر أسفار العهد الجديد، أراد يوحنا أن يكرم الملاك الذي أراه أمجاد السماء وأنبأه بما سيأتي على المسكونة من أحداث، ففي لحظة الوداع شكر يوحنا الملاك وسجد عند قدميه في حالة من الذهول مما شاهده من أمجاد، وما تكشّف له من أسرار، ونعتقد أن سجوده كان بمعنى التكريم، لكن الملاك رفض حتى هذا النوع من السجود وحذّر يوحنا بقوله:
"انظُرْ لا تفعل! لأني عبد معك ومع إخوتك، اسجد لله".
فالمسيح نهى عن السجود لغير الله، وإنجيله المقدس نشر هذا التعليم بين الناس، ورسل المسيح الأطهار طبّقوا هذا في حياتهم ونادوا به، ومع كل ذلك فالمسيح قَبِل السجود لشخصه ولم يرفضه إقرارًا منه بلاهوته وربوبيته، علمًا بأن المسيح في حياته على الأرض عُرف بتواضعه وبعده عن الكبرياء والتّعظُّم. وطوبى لمن عرف حقيقة هويته وسار على هديها.