أذار March 2011
تابع لموضوع "التجسد... روعة الإعلان لنعمة الغفران"
إن ما شقّ على مؤمني العصور الأولى توقّعه، هو ما قد حققه الله المهوب، العادل والمحب في آن معًا، لأنه القادر على كل شيء!
لقد كانت قلوب الكثيرين ساغبة ظامئة لمعرفة ذلك الإله القدوس المتسربل بالبهاء والعظمة والجلال... المتعالي جدًا في برجه البعيد المنال! لقد رأوا آياته الهائلة وعجائبه العظيمة، وسمعوا ما تكلم إليهم به من فوق السحب أو من أعالي الجبال.
فكيف يستطيعون أن يقتربوا من جلاله المهيب؟ بل كيف يتّقون عدله الصارم الرهيب؟
ذلك الإله العظيم غير المحدود في جبروته وقدرته، المتعالي جدًا في برّه وقداسته، تخلّى في المسيح عن كل أشكال سلطانه، لكي يتلاقى مع مخلوقه الضعيف الوارث لجميع عناصر العصيان والفساد في طبعه وإرادته، والذي صارت تسكن في أعماقه دوافع البعد والتوحّد والاستقلال، ليفعل ما يشاء دون رقيب أو حسيب، ويكون سيد ذاته دون ممانعة أو جدال. وقد خفي عنه أنه بهذا يحكم على نفسه بالفناء والزوال.
تلك هي صورة الحب الإلهي العجيب، الذي وقف في وجه عدله الرهيب، لكي يرفع عن بني الإنسان حكم الدينونة والقصاص بفداء الصليب. لقد تكلمنا في حلقة سابقة عن رغبة مقدسة أوجدها روح الله القدوس في قلوب الأتقياء في الزمن القديم، عبّر عنها أيوب قبلاً في توجّهاته إلى الله، وتوالت في أفكار المرنمين وأدعية المصلين، وفيما أوحي للأنبياء والقديسين. وهي أنه باستطاعة المخلوق الضعيف المحدود أن يقف أمام باريه غير المحدود، وأن يتحدّث إليه، وحتى أن يحاجّه كما قال: "إِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْقَوِيِّ، يَقُولُ: هأَنَذَا. وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ يَقُولُ: مَنْ يُحَاكِمُنِي؟" (أيوب 19:9). وقوله أيضًا: "لأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِنْسَانًا مِثْلِي فَأُجَاوِبَهُ، فَنَأْتِي جَمِيعًا إِلَى الْمُحَاكَمَةِ" (أيوب 32:9).
ولعلّ في ما قاله الله على لسان إشعياء النبي جوابًا صريحًا لكل تلك التطلعات إذ يقول: "هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ. إِنْ شِئْتُمْ وَسَمِعْتُمْ تَأْكُلُونَ خَيْرَ الأَرْضِ. وَإِنْ أَبَيْتُمْ وَتَمَرَّدْتُمْ تُؤْكَلُونَ بِالسَّيْفِ. لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ" (إشعياء 18:1-20). والمعنى البارز هنا هو في كلمة "نتحاجج"، ويمكننا أن نفهم هذه الكلمة بحسب مدلول لغة عصرها، فهي لا تفيد المناقشة أو الحوار كما يظن البعض، بل تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فقد كانت تعني المرافعة أمام القضاء في قضية ما، وقد بقي هذا المعنى شائعًا حتى ما بعد زمن كتابة العهد الجديد، بدليل القراءات التالية:
1- يقول الرب على لسان إشعياء: "قَدِّمُوا دَعْوَاكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. أَحْضِرُوا حُجَجَكُمْ، يَقُولُ مَلِكُ يَعْقُوبَ" (إشعياء 21:41).
2- "فَأَجَابَ بُولُسُ، إِذْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ الْوَالِي أَنْ يَتَكَلَّمَ: «إِنِّي إِذْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ قَاضٍ لِهذِهِ الأُمَّةِ، أَحْتَجُّ عَمَّا فِي أَمْرِي بِأَكْثَرِ سُرُورٍ" (أعمال 10:24).
3- "فَقَالَ أَغْرِيبَاسُ لِبُولُسَ: «مَأْذُونٌ لَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ لأَجْلِ نَفْسِكَ». حِينَئِذٍ بَسَطَ بُولُسُ يَدَهُ وَجَعَلَ يَحْتَجُّ" (أعمال 1:26). لقد كانت هناك إجراءات كثيرة يجب التقيّد بها. فكل طرف في المحاكمة يجب أن يبسط يده أمام القاضي وهو يدلي بأقواله كأنه يلتمس العدالة، إلخ...
4- "فِي احْتِجَاجِي الأَوَّلِ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مَعِي، بَلِ الْجَمِيعُ تَرَكُونِي. لاَ يُحْسَبْ عَلَيْهِمْ" (2تيموثاوس 16:4).
فكأن الله يقول: سوف أتنازل لأقف وجهًا لوجه مع الإنسان أمام عدلي المطلق فنتحاكم ويدلي كلٌّ منا بحججه في وجه الطرف الآخر، فيقرع كلٌّ منا الحجة بالحجة، ومن ثمّ يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير إذ يكشف - وهو الطرف الأقوى والضامن للنتائج - أمورًا ليس هناك في الحياة ما هو أهم منها من جهة، وأخطر من إهمالها من جهة أخرى وهي:
أولاً: التنازل العظيم
لقد تنازل القدوس ساكن العلاء في شخص الابن، الأقنوم الثاني في اللاهوت، وذلك في ملء الزمان (وهذه العبارة كما نفهمها تعني: حينما أصبح العقل البشري قادرًا على استيعاب فكرة الفداء الإلهي. وقد هيّأ الله الظروف البشرية والكونية والسياسية لإكمال قصده المبارك).
إن عظمة التجسد تكمن في أنه يفوق إدراك العقل البشري المجرّد، ولا يمكن لإنسان ما قبوله إلا إذا أعطي إعلانًا بالروح القدس، وسمح له الله أن يدخل إلى عمق هذا السر العجيب الذي قال عنه بولس الرسول بالروح القدس: "عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد". فلا يفكرنّ أحد قبوله بذهنه أو بفطنته الخاصة دون التضرّع للحصول على إعلان من الله. وفي هذا التجسّد تخلّى الله الابن عن كامل امتيازاته كما يقول بولس أيضًا في رسالة فيلبي: "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ" (فيلبي 6:2-7). وعبارة "أخلى نفسه" هذه تعني في لغة المحاكم، "نزع الحصانة عن ذاته".
أ- لقد نزع المسيح عن ذاته حصانة اللاهوت إذ أخذ جسدًا بشريًا محاطًا بكل متطلبات ومشاعر الجسد، ولكن بلا خطية كما تقول الكلمة الإلهية "مثلنا في كل شيء ما عدا الخطية". لقد دخل غير المحدود في نطاق المحدود، والذي فوق الزمان والمكان دخل في حدودهما، والذي هو روحٌ مطلق لبس اللحم والدم والعظام.
ب- وقد نزع عن ذاته حصانة مجده وبهائه. إذ حُبل به في رحم العذراء كبني الإنسان وعاش طفلاً في أسرة فقيرة، ثم عمل نجارًا كحرفة البيت الذي تُرُبّي فيه، "آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس"؛ وتعني أن المسيح نزل ليس فقط إلى مرتبة البشر بل إلى أدنى مرتبة من مراتب بني البشر، مرتبة العبيد. فما أعظمه من تنازل!
كان المؤمنون الأوائل يسجدون خشوعًا وهم يتلون قانون الإيمان عندما يصلون إلى عبارة "ونزل من السماء وتجسّد من مريم العذراء"! فما أعظمها من نعمة، وما أغناها من عطية لا تُقدّر بكل ما في الكون من أمجاد!
ج- ونزع أيضًا عن ذاته حصانة قدرته وسلطانه، فجاء وديعًا متواضعًا "قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ". الذي يدير بقدرته الكون، وتهتزّ لصوته الجبال وقف متحدّثًا إلى بسطاء العالم بالطوبى... "الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل"؛ وقف يُحاكَم أمام الكتبة والفريسيين المرائين ورؤساء الكهنة المزيّفين، وولاة هذا الدهر الذي سيفنون، وهو الذي ملكه ملك كل الدهور وسلطانه في كل دور فدور، "سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ".
د- وتخلّى أيضًا عن حصانة برّه وقداسته. فمن هو الإنسان الملوّث بالشر والعصيان الذي يستطيع أن يوجّه تهمة للكامل في قداسته وبره الذي "السَّمَاوَاتُ غَيْرُ طَاهِرَةٍ بِعَيْنَيْهِ... وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً"؟ ولكنه قَبِل طوعًا من أجل الفداء أن تنسب إليه جهالات وخطايا بني البشر. فقيل عنه أنه مجدّف، وفاعل شر، ومثير الفتن، ومتعدٍّ على الناموس، ومحتقر للهيكل والسبت، وأنه سامريّ وبه شيطان! وهو الذي عيناه أطهر من أن تنظرا الشر، وفمه أنقى من أن يتلفّظ بالبطل لأنه منبع القداسة وأصل كل برّ. ومع ذلك يدعو الإنسان الخاطئ "هلمّ نتحاجج"!
فعظمة ذلك التنازل العجيب تأسر القلوب، وتسبي العقول والأذهان فيهتف كل ذي ضمير: إن هذا حقًا لكثير... كثير.
فدع دينك عليه، وفوّض أمورك إليه، وضع حياتك كلها بين يديه.
ثانيًا: العرض الكريم
فهو يعرض حبّه ونعمته وفداءه عرضًا، ولا يفرضها فرضًا. فما أكرمه من إله حق لا يُلغي حرية عبيده بل يعاملهم بكل كرم ولطف. "إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ... إِنْ شِئْتُمْ وَسَمِعْتُمْ تَأْكُلُونَ خَيْرَ الأَرْضِ".
ثالثًا: تحذيرات إله رحيم
لأنه بموجب محبته الفائقة وقلبه العطوف يخاف علينا من أن ننزلق في مهاوي الشر والفساد والبعد عنه فنهلك. لذا فهو يحذّر "وَإِنْ أَبَيْتُمْ وَتَمَرَّدْتُمْ تُؤْكَلُونَ بِالسَّيْفِ لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ".