أذار March 2012
تأملات في مزمور 84
1مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ! 2تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِالإِلهِ الْحَيِّ. 3الْعُصْفُورُ أَيْضًا وَجَدَ بَيْتًا، وَالسُّنُونَةُ عُشًّا لِنَفْسِهَا حَيْثُ تَضَعُ أَفْرَاخَهَا، مَذَابِحَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ، مَلِكِي وَإِلهِي. 4طُوبَى لِلسَّاكِنِينَ فِي بَيْتِكَ، أَبَدًا يُسَبِّحُونَكَ. سِلاَهْ.
5طُوبَى لأُنَاسٍ عِزُّهُمْ بِكَ. طُرُقُ بَيْتِكَ فِي قُلُوبِهِمْ. 6عَابِرِينَ فِي وَادِي الْبُكَاءِ، يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعًا. أَيْضًا بِبَرَكَاتٍ يُغَطُّونَ مُورَةَ. 7يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ. يُرَوْنَ قُدَّامَ اللهِ فِي صِهْيَوْنَ.
8يَا رَبُّ إِلهَ الْجُنُودِ، اسْمَعْ صَلاَتِي، وَاصْغَ يَا إِلهَ يَعْقُوبَ. سِلاَهْ. 9يَا مِجَنَّنَا انْظُرْ يَا اَللهُ، وَالْتَفِتْ إِلَى وَجْهِ مَسِيحِكَ. 10لأَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ. اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِفِي بَيْتِ إِلهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ. 11لأَنَّ الرَّبَّ، اللهَ، شَمْسٌ وَمِجَنٌّ. الرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْدًا. لاَ يَمْنَعُ خَيْرًا عَنِ السَّالِكِينَ بِالْكَمَالِ. 12يَا رَبَّ الْجُنُودِ، طُوبَى لِلإِنْسَانِ الْمُتَّكِلِ عَلَيْكَ.
"مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ! تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ. قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِالإِلهِ الْحَيِّ".
(عدد 1 و2)
من الواضح أن الفكر السائد في هذا المزمور هو الوجود في محضر الرب، في مساكن رب الجنود (عدد 1)، في "ديار الرب" (عدد 2)، السكنى في بيته"
(عدد 4).
كان هناك وقتئذ قصور فخمة يسكن فيها الملوك والأغنياء، ولكن كاتب هذا المزمور لم يكن متعلّقًا بها أو بالسكنى فيها. وإنما كانت نفسه تشتاق بل تتوق - وكأنها تذوب شوقًا - إلى ديار الرب. وقوله "مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ" يعني أنها تفوق الوصف! هل كان إعجابه هو بخيمة الاجتماع التي بناها موسى والتي سُمِّيت "البيت الذهبي"؟ إنها لم تكن إلا رمزًا لوجود الرب المستمرّ مع شعبه. أم هل كان إعجابه هو بالهيكل الذي بناه سليمان الذي هدمته جيوش نبوخذنصّر، أو الذي بُني بعد الأسر البابلي الذي تدنّس، وقال عنه الرب يسوع المسيح "جعلتموه مغارة لصوص"؟ كلاَّ، بل بكل تأكيد كان فكره متجهًا نحو السماء، نحو المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله، التي سوف تكون "مسكن الله مع الناس" (رؤيا 3:21)، "وَالْمَدِينَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ إِلَى الْقَمَرِ لِيُضِيئَا فِيهَا، لأَنَّ مَجْدَ اللهِ قَدْ أَنَارَهَا، وَالْخَرُوفُ سِرَاجُهَا". قال عنها المرنم:
ما أحلى مكانًا أُعِدّ لنا
زانه جمالاً مجد ربنا
إلى محضر الرب كانت تشتاق بل تتوق نفسه. ونحن يمكننا أن نقول معه أيضًا "مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ"، وكلٌّ منا يهتف قائلاً: "تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ"، ولنا الامتياز ونحن على هذه الأرض أن ندخل إلى الأقداس "إِلَى مَا دَاخِلَ الْحِجَابِ، حَيْثُ دَخَلَ يَسُوعُ كَسَابِق لأَجْلِنَا" (عبرانيين 19:6-20).
"الْعُصْفُورُ أَيْضًا وَجَدَ بَيْتًا، وَالسُّنُونَةُ عُشًّا لِنَفْسِهَا حَيْثُ تَضَعُ أَفْرَاخَهَا، مَذَابِحَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ، مَلِكِي وَإِلهِي" (عدد 3).
العصفور هو طائر صغير وضعيف وليست له قيمة كبيرة عند الناس، "عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ" (متى 29:10)، و"خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ" (لوقا 6:12)، كأن واحدًا منها بلا ثمن "وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لاَ يَسْقُطُ عَلَى الأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ" (متى 29:10). هذا الطائر الصغير - العصفور أو السنونة - يجد ملجأ في ديار الرب. ربما تطلّع كاتب المزمور ورأى السنونة تضع صغارها في عش في المذبح. هناك اطمأنّت بخصوص نفسها وبخصوص صغارها. يا له من درس ثمين لنا نحن الذين قال لنا الرب: "أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ" (متى 31:10)! إننا نعيش في عالم مليء بالأخطار روحيًا وزمنيًا، ولكن لنا في ديار الرب الملجأ الحصين. "اِسْمُ الرَّبِّ بُرْجٌ حَصِينٌ، يَرْكُضُ إِلَيْهِ الصِّدِّيقُ وَيَتَمَنَّعُ" (أمثال 10:18). "اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ، فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ. "أَقُولُ لِلرَّبِّ: ’مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ‘" (مزمور 1:91-2).
"طُوبَى لِلسَّاكِنِينَ فِي بَيْتِكَ، أَبَدًا يُسَبِّحُونَكَ"
(عدد 4).
السكنى في بيت الرب ليست مجرّد زيارات قصيرة، أو دقائق نقضيها مرتين أو ثلاثة في اليوم، بل هي قضاء وقت طويل مع الرب، وبذلك حتى في مسؤولياتنا اليومية تمتلئ قلوبنا بمحبته وبشعورنا أننا في محضره طول الوقت. للأسف الشديد، كم من المرات نرنم قائلين: "يا طيب ساعات بها أخلو مع الحبيب" ولكننا نقضي الدقائق القليلة. الساكنون في بيت الرب يقضون أطول وقت ممكن في الصلاة وقراءة الكلمة، وبذلك يمكنهم أن يلهجوا، أي يتأملوا، في كلامه نهارًا وليلاً (مزمور 1). هؤلاء هم السعداء حقًا، المطوّبون! فالسعادة ليست في المال أو الصحة - وإن كنا نشكر الرب عليهما حين يمنحنا إياهما - ولكن السعادة الحقيقية هي التي ننالها في الشركة مع الرب كما قال داود: "جَعَلْتَ سُرُورًا فِي قَلْبِي أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِمْ إِذْ كَثُرَتْ حِنْطَتُهُمْ وَخَمْرُهُمْ" (مزمور 7:4). وأيضًا "أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ. فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى الأَبَدِ" (مزمور 11:16). الساكنون في محضر الرب هم الذين يقول عنهم "أبدًا يسبحونك"، أي يسبحونه باستمرار، مهما كانت الظروف.
"طُوبَى لأُنَاسٍ عِزُّهُمْ بِكَ. طُرُقُ بَيْتِكَ فِي قُلُوبِهِمْ. عَابِرِينَ فِي وَادِي الْبُكَاءِ، يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعًا. أَيْضًا بِبَرَكَاتٍ يُغَطُّونَ مُورَةَ".
(عدد 5، 6)
الطوبى هي السعادة، والسعادة هي للمؤمن الذي يجد قوته وحمايته في الرب. هؤلاء قلوبهم دائمًا تسعى نحو الوجود في محضر الرب، فلا يذهبون إلى اجتماعات المؤمنين كمجرّد واجب يؤدونه، بل قلوبهم تدفعهم دائمًا نحو الشركة الروحية، سواء الفردية أم العائلية، أم مع المؤمنين الآخرين. هذه هي رغبة قلوبهم. هم يعبرون وادي البكاء كباقي البشر ولكنهم بالتجائهم للرب يحوّلون الأحزان إلى أفراح والصعوبات إلى أسباب للشكر للرب.
لما جاء بنو إسرائيل إلى "مارّة" التي كانت مياهها مرّة - ولذلك سُمّيت "مارة" أو مورة - أظهر لهم الرب قدرته على أن يحوّل المرّ إلى حلو. إنهم يختبرون بركات الرب حتى في أصعب الظروف، وبذلك يتحقق القول: "ببركات يغطون مورة".
"يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ. يُرَوْنَ قُدَّامَ اللهِ فِي صِهْيَوْنَ" (عدد 7).
فهم يعبرون في وادي البكاء وتصادفهم مياة "مورة" التي تتحوّل لهم إلى مياه بركات. وفي النهاية يصلون إلى صهيون، وهناك يُرَون قدام الله. حقًا ما أسعدهم! طوبى لهم، لأن عزّهم بك يا رب.
"لأَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ. اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ" (عدد 10).
من هذا نتعلّم أن الدقائق التي نقضيها في محضر الرب هي أفضل من الساعات الطويلة الكثيرة التي نقضيها في أمور أخرى بما فيها وسائل التسلية، أو كسب المال. "الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ" ليس مريحًا للجسد مثل السكن في بيت أو قصر، ولكن إن كان هذا الوقوف هو حيث نستمع لصوت الرب أو نرى لمحة من مجده، وذلك بالإيمان، فإنه أفضل كثيرًا من كل ما يقدّمه هذا العالم. أما عن السكن في خيام الأشرار، فهو يسبّب للمؤمن الحزن والألم. أن نُضطهد مع شعب الرب هو أفضل من أن يكرمنا أعداء الرب. وهذا ما عرفه موسى ولذلك يقول عنه في عبرانيين 24:11-26 "بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ".
إن التأمل في بركات الوجود في محضر الرب ليس قاصرًا على ما جاء في هذا المزمور، بل نجده في مزامير أخرى كثيرة، نذكر منها المزمور الشهير "مزمور 23" الذي يبدأ بالقول "الرب راعيّ فلا يعوزني شيء"، ويختتم بالقول "وأسكن في بيت الرب إلى مدى الأيام". وفي مزمور 4:27 "وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي (أو فيه) هَيْكَلِهِ ". وأخيرًا، نشير إلى مزمور 12:92-14 "اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو، كَالأَرْزِ فِي لُبْنَانَ يَنْمُو. مَغْرُوسِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ، فِي دِيَارِ إِلهِنَا يُزْهِرُونَ. أَيْضًا يُثْمِرُونَ فِي الشَّيْبَةِ. يَكُونُونَ دِسَامًا وَخُضْرًا".
ليتنا جميعًا نختبر بركات الوجود الكثير في محضر الرب، فنقول مع المرنم:
كلّما أصبو إليه لذّ لي فيه الوفاق
كلما أدنو لديه زادني له اشتياق