Voice of Preaching the Gospel

vopg

أذار March 2012

Dr. Shahid"وَأَمَرَ الْمَلِكُ (نبوخذنصّر) أَشْفَنَزَ رَئِيسَ خِصْيَانِهِ بِأَنْ يُحْضِرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْ نَسْلِ الْمُلْكِ وَمِنَ الشُّرَفَاءِ، فِتْيَانًا لاَ عَيْبَ فِيهِمْ... وَكَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ بَنِي يَهُوذَا: دَانِيآلُ... أَمَّا دَانِيآلُ فَجَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ..."
(دانيآل 1:1-8).

حديثي اليوم في هذه الدراسة الموجزة عن المؤمن المتفوّق الذي يتّخذ مواقف متصلّبة، لا عن عناد أو عنجهية؛ وإنما من أجل أن يتمجّد الرب في حياته، ويكون شهادة حيّة عن إيمانه، وثباته، وجرأته، بل واستعداده للتضحية بذاته من أجل تعظيم اسم إلهه.

 

إن الظروف التي أحاطت بدانيآل ورفاقه لم تكن ظروفًا عادية. فقد انهار عالمه الاجتماعي والحضاري والسياسي بعد سقوط أورشليم بيد نبوخذنصّر الملك الكلداني الذي هدم الهيكل، وسلب آنية بيت الرب، وجاء بها إلى أرض شنعار حيث احتفظ بها في خزانة إلهه. لم يكن دانيآل يزيد آنئذ عن السابعة عشرة من عمره، ولكن قلبه كان عامرًا بتقوى الله وخوفه، وإذ وقع في الأسر، فإنه حمل إيمانه معه إلى أرضٍ غريبة، واستسلم إلى إرادة الله ومشيئته. ولا بُدّ لي في سياق هذا التأمل أن أشير إلى بعض الخصائص التي جعلت من دانيآل ورفاقه مؤمنين متفوّقين فأكرموا الرب في مواقفهم ولم يخشوا جور السلطان.

 

أولاً: العزلة

وجد دانيآل ورفاقه الثلاثة أنفسهم في وضعٍ يبعث على اليأس. فهم قد استؤصلوا من أرضهم وهم في مطلع حياتهم، وحُرموا من الأهل والأقرباء إذ أن الكتاب المقدس لا يذكر لنا شيئًا عن علاقاتهم الأسروية سوى أنهم من الشرفاء أو من نسل الملك. ولا ريب أن الإحساس بالوحدة، والقلق والخوف على مصير والديهم قد أثار في نفوسهم اليأس، والأسى ولا سيّما أنهم الآن في بلدٍ يجهلون لغة أهله، وفي جوٍّ موبوء بعبادة الأصنام، والتقاليد التي تختلف كليًا عن تقاليد شعبهم وموطنهم وتراثهم. فهم في الأسْرِ أقلّية مستعبدة لنبوخذنصّر وعظمائه في مجتمعٍ معادٍ. وزاد من هذه العزلة أن الملك نبوخذنصّر فرض على الذين اختارهم أن يقضوا ثلاث سنوات يتعلّمون فيها اللغة الكلدانية محادثة، وقراءة، وكتابة، ليستخدمهم في ما بعد في سلكه الدبلوماسي، ولكي يصبحوا جزءًا لا يتجزّأ من الحاشية التي يعتمد عليها، ويقفوا دائمًا في محضره. ولا شك أن اختيار هؤلاء الشرفاء الشباب كان امتيازًا رفيعًا في نظر نبوخذنصّر، أعظم ملك في زمانه. ويبدو لي أيضًا أنهم كانوا رموزًا لانتصاراته على شعوب الشرق الأوسط، فهم على الرغم من مراكزهم التي سيتبوّأونها، ليسوا سوى عبيد في خدمة الملك. وهذه الحقيقة زادت من عزلة دانيآل ورفاقه النفسية لأنهم وجدوا أنفسهم فجأة في غربة روحية، واجتماعية وسياسية.

غير أن هذه العزلة لم تكن مبعث يأس في حياة الشاب دانيآل. لأنه كان يحمل إيمانه في قلبه، ويحيا تراثه في عالمه الداخلي. فكان موقفه الأول الذي نمّ عن ثقته بإلهه عندما "جَعَلَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ بِأَطَايِبِ الْمَلِكِ وَلاَ بِخَمْرِ مَشْرُوبِهِ". إن مثل هذا الموقف المفعم بالتحدّي الصامت يتطلب إرادة جبارة وقوة إيمان لا تتوافر إلا لقلة ضئيلة من الناضجين بالإيمان. وإذ رأى الرب إيمانه وإيمان رفقائه "أَعْطَى اللهُ دَانِيآلَ نِعْمَةً وَرَحْمَةً عِنْدَ رَئِيسِ الْخِصْيَانِ". وهكذا أخفقت العزلة في تحطيم إرادة الثابتين في الرب.

وهذا درس بليغ في الثقة والأمانة يتراءى لنا من خلال ضباب العصور، ويشعّ فجأة في نواظرنا عربونًا عن وفاء الرب لمواعيده إن كنا حقًا قد أوليناه كل إخلاصنا وتمسّكنا فيه. فإن حضور الرب في حياتنا، على الرغم من ظروف الحياة القاسية، يؤتينا النصر والغلبة، بغض النظر عن أعمارنا، أو الأحوال المثبطة للعزيمة.

 

ثانيًا: الشهادة العملية

إن الحوار الذي دار بين دانيآل ورئيس الخصيان ينمّ عن عمق إيمان دانيآل وثقته بالنتائج التي يتوقعها. فهو في هذا الحوار لا يترك مجالاً لرئيس السقاة للتردد إذ يقول له: "جَرِّبْ عَبِيدَكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. فَلْيُعْطُونَا الْقَطَانِيَّ لِنَأْكُلَ وَمَاءً لِنَشْرَبَ. وَلْيَنْظُرُوا إِلَى مَنَاظِرِنَا أَمَامَكَ...". كان الغرض من اقتراح دانيآل هو المقارنة بينهم وبين بقية الفتيان الذين يأكلون من أطايب الملك. كانت هذه تجربة عملية لا يستطيع رئيس الخصيان ورئيس السقاة أن ينكرا نتائجها؛ فالعشرة أيام على الرغم من قلة عددها كانت كافية للبرهنة عن عمل الله في حياة هؤلاء الفتية الأربعة، إذ يقول الكتاب: "وَعِنْدَ نِهَايَةِ الْعَشَرَةِ الأَيَّامِ ظَهَرَتْ مَنَاظِرُهُمْ أَحْسَنَ وَأَسْمَنَ لَحْمًا مِنْ كُلِّ الْفِتْيَانِ الآكِلِينَ مِنْ أَطَايِبِ الْمَلِكِ". تجلّت هذه الحقيقة أمام بقية الشهود كبرهان قاطع عن عمل الله الحي في حياة هؤلاء الفتيان. وما يلفت انتباهنا في هذا الموقف هو اليقين الذي ملأ قلب دانيآل بأن الله لا بُدَّ أن يتدخّل في مأكلهم ومشربهم، ويشدّ من أزرهم في هذا التحدّي. وأكثر من ذلك فإن الله أعطاهم "... مَعْرِفَةً وَعَقْلاً فِي كُلِّ كِتَابَةٍ وَحِكْمَةٍ"، وأغدق على دانيآل مزية خاصة فجعله "فهيمًا بكل الرؤى والأحلام". هنا علينا أن نتوقّف لحظة لنتمعّن في معاملات الله مع هؤلاء الأبطال المتفوّقين بالإيمان. إن الله العالِم بكل شيء كان يُعدّ دانيآل لتلك اللحظة الحرجة في حياة الملك التي أخفق فيها جميع السحرة والمنجّمين عن تفسير الرؤيا التي شاهدها نبوخذنصّر في منامه. ولعلّ دانيآل الفتى قد تساءل في هذه الحقبة في حياته عن الدواعي التي أدّت بالله أن يعطيه هذا الفهم في تفسير الرؤى. ولكن الرب لم يكشف له عن إرادته إلا في الوقت المناسب حين اقتضت الضرورة.

وهكذا مضت الثلاث سنوات وهؤلاء الفتية يأكلون القطاني، ويشربون الماء إلى ذلك اليوم الذي وقفوا فيه أمام الملك.

قد يتساءل القارئ: لماذا رفض دانيآل ورفاقه أن يأكلوا من أطايب الملك أو يشربوا من خموره؟ والجواب هو أن هذه المأكولات والمشروبات كانت مما يُقدّم على مذابح الآلهة في الهياكل الوثنية، لهذا أبوا أن يتدنّسوا بها.

يا له من درس عميق لنا نحن أبناء القرن الواحد والعشرين الذين ينطبق علينا قول المسيح بأننا في العالم ولكننا لسنا من العالم! لا مفرّ لنا كأبناء الملكوت من التفادي من مشاركة أهل العالم بنجاساتهم ووسائل لهوهم التي لا تمجّد الله. إن الله يطالبنا أن نتخذ مواقف نعرب عن تقديسنا له، وفيها نعبّر عن إيماننا بمن فدانا، ونعيش كما يحقّ لإنجيل المسيح. لقد انتصر دانيآل على إغراء أطايب الملك وخموره.

 

ثالثًا: المعرفة

كان غرض نبوخذنصّر أن يمهر هؤلاء المختارون بكتابة الكلدانيين ولسانهم. ومعنى ذلك كان عليهم أن يطّلعوا على المؤلفات الكلدانية الأدبية والدينية، وفي هذا خطر داهم على حياة دانيآل الروحية ومعتقداته الدينية. فكيف كان في إمكانه أن يجابه هذه المشكلة وينتصر عليها؟ إننا نجد الجواب في حياة دانيآل نفسه. فقد حمل معه في قلبه الإيمان الثابت ولم يدع للتيارات الدينية الوثنية أن تؤثر على عقيدته وعلاقته بالله. بل اتخذ من إيمانه قوة، واستطاع في خضم التجارب أن يخوض تلك الحرب الروحية وينتصر. وكذلك فعل الفتية الثلاثة. عندما أمر نبوخذنصّر الشعوب الخاضعة له أن تسجد للتمثال الذي نصبه، رفض الفتيان الثلاثة جميعًا الإذعان لأمره. وأروع ما ورد على لسانهم قولهم للملك بشجاعة لا نظير لها:

"يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، لاَ يَلْزَمُنَا أَنْ نُجِيبَكَ عَنْ هذَا الأَمْرِ. هُوَذَا يُوجَدُ إِلهُنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ، وَأَنْ يُنْقِذَنَا مِنْ يَدِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. وَإِلاَّ فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَنَّنَا لاَ نَعْبُدُ آلِهَتَكَ وَلاَ نَسْجُدُ لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَهُ".

(دانيآل 16:3-18)

يا للروعة! ويا لهذا الموقف الجبار! هل لاحظت، يا قارئي، كيف ابتدأ ردّهم على الملك؟ قالوا: "يا نَبُوخَذْنَصَّرُ". لم يبدأوا بلقب الملك لأنه أراد أن يضع نفسه محلّ الله. وأكثر من ذلك، وفي نهاية الجواب قالوا له بما معناه: حتى لو لم ينقذنا من أتونك فإنَّنَا "لاَ نَعْبُدُ آلِهَتَكَ وَلاَ نَسْجُدُ لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَهُ". لم يتطرق الخوف إلى قلوبهم من الأتون بل ثبتوا بالرب، وغلبوا لأن الله أنقذهم من نيرانه مما أذهل الملك ومشيريه، وأقرّ نبوخذنصّر بأنهم حقًّا عبيد الله.

كان التمرّد على أمر الملك الذي يتناقض مع إرادة الله هو موقف تسليم كامل وخضوع حتمي لجلال الله وبهائه لأنه وحده خالق السماوات والأرض. يا ليت أن تكون لنا الجرأة لكي نطيع الله أكثر من الناس.

 

رابعًا: الغلبة الكاملة

تعرّض دانيآل أيضًا لتجربة أخرى إبّان الحكم الفارسي حين أُلقي في جب الأسود لأنه أبى أن يصلي إلى الملك، وفتح كوة بيته وشرع يصلي إلى الإله الحقيقي علانية ثلاث مرات في اليوم. ولقد أظهر نفس الإيمان والجرأة التي أبداها الفتية الثلاث عندما أُلقوا في أتون النار. فقد قُبض عليه وزُجّ في جبّ أسود ضارية جائعة نتيجة لمؤامرة أعدائه عليه الذين خدعوا الملك حتى اضطرّ أن يعاقبه. ولكن ماذا حدث؟ تجلّى في لحظة الأزمة إيمان دانيآل وتحدّى أوامر الملك ومشيريه، وبقي أمينًا لله، وحين طُرح في جبّ الأسود سدّ الله أفواههم، وكانوا له أُنسًا وسلامًا، وراحة. وكم دُهش الملك عندما جاء في اليوم التالي ليرى ما أصاب دانيآل فوجده سليمًا معافىً. لقد حاول الملك سابقًا أن ينقذ دانيآل من هذا المصير المرعب لأنه كان يحبه ويقدّره ولكن عجز عن إلغاء الأمر. ولكن قبل أن يُطرح دانيآل في جب الأسود قال له الملك: "إن إلهك الذي تعبده دائمًا ينجيك". يا لها من شهادة! وعندما جاء وفتح فم الجب صرخ: "يَا دَانِيآلُ عَبْدَ اللهِ الْحَيِّ، هَلْ إِلهُكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ دَائِمًا قَدِرَ عَلَى أَنْ يُنَجِّيَكَ مِنَ الأُسُودِ؟". ولكم ابتهج قلب الملك عندما سمع صوت دانيآل الحيّ من أعماق الجب!

عزيزي القارئ، هؤلاء رجال متفوّقون في إيمانهم؛ صمدوا أمام التجارب وانتصروا وليس كالبعض منّا الذين "تجدّدوا وتمدّدوا" كما يقول الطيّب الذكر القس يوسف قسطه. سيرة حياتهم هي قصة الانتصار والثقة والإيمان. فأين أنت منهم؟ بل أين نحن منهم؟ إن الرب يسوع المسيح يطالبنا أن نكون مؤمنين متفوّقين وصورة حية عن معاملات الله مع أتقيائه، بصرف النظر عن أعمارنا ومراكزنا.

المجموعة: أذار March 2012

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

109 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10476801