نيسان April 2012
من أغرب الألقاب التي أطلقها الوحي المقدس على الرب يسوع المسيح في فترة تجسّده، امتدادًا إلى وقت آلامه وصلبه لأجل الفداء، لقب "مسكين". ولقد أطلقه الرب على ذاته من خلال نبوات كثيرة، فصار هذا اللقب مصدر قوة وعزاء للكثيرين من بائسي شعبه، وسبب نصرة روحية لجميع منتظريه، كما صار في الوقت نفسه حجر عثرة للمستكبرين المتعظمين الرافضين لخلاصه العجيب.
نجد هذا اللقب يتكرر في معظم المزامير المسيّانية وفقرات الكتاب الأخرى - بوحي الروح القدس - تعبيرًا عن تواضع ملك الملوك العظيم واحتماله جميع أنواع الألم بصبر وانسحاق لا مثيل لهما، فقد جعل نفسه مسكينًا لأجلنا!
صار المسيح مسكينًا في:
1- فقره
قال عن نفسه على لسان النبوّة: "فَإِنِّي فَقِيرٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا، وَقَلْبِي مَجْرُوحٌ فِي دَاخِلِي". (مزمور 22:109)
ورغم أنه مالكُ ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ، وهو الذي يهبها بغنى لمن يشاء، فقد استخدم في أيام تجسده وفي أهم مناسبات حياته وسائل مستعارة:
- فكان مهده مذودًا حقيرًا مستعارًا. وكانت راحلته حين دخل المدينة المقدسة لإعلان ملكه الروحي، ليست جوادًا مطهّمًا، ولا مركبة ملوكية بل ركب على جحش مستعار. وكان لحده قبرًا مستعارًا أيضًا.
- أمر تلميذه بطرس أن يذهب إلى البحر لكي يلقي صنارة فيصطاد سمكة بحيث يجد في فمها قطعة عملة يدفع بها عنه وعن السيد ضريبة الهيكل.
- وحينما سأله أحدهم قائلاً: "يا سيد، أتبعك أينما تمضي؟" أجاب قائلاً: "لِلثَّعَالِب أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ" (متى 19:8-20).
فيا للعجب! لشد ما يصعب على الكثيرين أن يفهموا أبعاد هذا الصنيع العظيم. إنه من عجائب خطة الإله الحكيم. وقد أعلن الرسول بولس سبب ذلك بقوله: "فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ" (2كورنثوس 9:8).
2- تنازله وشدة اتضاعه
فقد وُصف - له المجد - بهذه الألقاب: المسكين، الذليل، البائس، مُحتقر الشعب، مُهان النفس، مكروه الأمة، عبد المتسلطين، وغيرها كثير... فما أعجب تواضع الرب "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ" (فيلبي 6:2-7).
وقد تنازل في تواضعه إلى أبعد من ذلك أيضًا إذ قال عن نفسه بلسان النبوّة: "أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ" (مزمور 6:22).
وقال فيه إشعياء النبي: "ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ". (إشعياء 7:53)
فإذا كانت الأمور تُقاس بشكل نسبي، فالتواضع يتم تقييمه على قدر المركز الذي تخلّى عنه صاحبه والوضع الذي تحوّل إليه. وهكذا فتواضع المسيح ذاك الذي قرأنا عنه، لا تستطيع جميع لغات بني البشر أن تصف مقداره ولا تقدر أفهامنا على إدراك مداه.
3- احتماله الإهانات والآلام طوعًا
فقد قيل عنه: "بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ، وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ" (إشعياء 6:50). وقيل عنه أيضًا: "عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ الْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلاَمَهُمْ"
(مزمور 3:129). فخلال مدة خدمته الجهارية وُجّهت إليه الإهانات الكثيرة رغم صلاحه وحبه وعمله الخيّر لجميع الذين التقى بهم. فأقرباؤه بالجسد قالوا عنه: مختلّ العقل، وشعبه قال عنه أنه سامريّ وبه شيطان، وقالت طبقة المتديّنين: أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين. وقال رؤساء الكهنة: إنه يجدّف... إلى غير ذلك من الكلمات الصعبة التي تكلّم بها عليه أناس فجّار، ولم يُجب أحدًا منهم بسوء ولا دافع عن نفسه كما يفعل بنو البشر.
وما أبلغ كلمات النبوّة التي أشارت إلى بعض آلامه تلك: "كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي. يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي، وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي، وَإِلَى تُرَابِالْمَوْتِ تَضَعُنِي... ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ" (مزمور 14:22-17).
- لقد احتمل المسيح أفظع أنواع الآلام الجسدية إذ ضُرب، ولُطم، وكُلّل بالشوك، وجُلد، وثُقبت يداه ورجلاه، وعُلّق على الصليب، وطُعن جنبه بالحربة، ومات ودُفن في قبر، ولكنه قام منتصرًا على قوات الجحيم!
- واحتمل أيضًا أقسى أنواع الآلام النفسية حين أُهين - رغم صلاحه - بكل الطرق الشريرة:
وكان تركه وحيدًا حين تفرّق عنه تلاميذه أصعب عليه من سياط الرومان!
وإنكار بطرس له بذلك الشكل المخجل أشدّ قسوة من المسامير!
وتسليمه من قبل أحد تلاميذه كان أرهب من الحربة التي خرقت قلبه!
- أما أعظم الآلام التي احتملها فكانت الآلام الكفارية. فلقد أحسّ - له المجد - وهو يواجه الاتهامات والعذابات والعقاب ظلمًا بأنه كان حاملاً على كاهله آثام وتعدّيات بني البشر تجاه الآب القدوس وعدله المطلق كجبل لا يستطيع الكون احتماله.
ªلقد كان هول ما ترتّب عليه احتماله عظيمًا جدًا، لكنه استطاع ذلك بقوة اللاهوت الساكن في جسده المعذّب، لأن أهدافًا عظام كانت ماثلة أمامه، فقد جاء أصلاً لكي يحقّقها، ومن أهمها:
أ- احتمال دينونة الهالكين بعمل الفداء لغفران خطايا الأثمة والفجار الذين يقرّون بعجزهم عن الوفاء بحقوق العدل السماوي لأنه اعتبرهم مساكين وقد غُلبوا على أمرهم بسبب تداخل الشيطان (1يوحنا 9:1 وأفسس 7:1).
ب- تبرير التائبين المنكسرين الذين قبلوا بدلية المسيح بالفداء ومصالحتهم مع الله القدوس بالتبني من جديد بعد إبطال العداوة بموته البديلي (أفسس 1:5 و24:4).
ج- إعلان الحق الإلهي وتعظيم الشريعة من جديد. لقد حصل التعدّي على حقّ الله القدوس وكُسرت شريعته وأُهينت كلمته بعصيان الخاطئ، فجاء المسيح لكي يعيد الاعتبار لحقوق الله والكرامة لشريعته الطاهرة.
"هُوَذَا عَبْدِي (المسيح المتجسد بديلاً عن الخطاة) الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ... وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ" (إشعياء 1:42-4). وأيضًا "الرَّبُّ قَدْ سُرَّ مِنْ أَجْلِ بِرِّهِ. يُعَظِّمُ الشَّرِيعَةَ وَيُكْرِمُهَا" (إشعياء 21:42).
د- تحقيق الرضى الإلهي ومسرّة الآب السماوي
تقول النبوّة: "رَضِيتَ يَا رَبُّ عَلَى أَرْضِكَ. أَرْجَعْتَ سَبْيَ يَعْقُوبَ. غَفَرْتَ إِثْمَ شَعْبِكَ. سَتَرْتَ كُلَّ خَطِيَّتِهِمْ". وقد تمّ ذلك بالمسيح الذي فيه "الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا" (مزمور 1:85 و2 و10). وتقول أيضًا: "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ" (إشعياء 10:53).
هـ- خلاص المساكين ورجاء البائسين
تقول عنه النبوّة: "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ" (إشعياء 1:61). ويقول الكتاب أيضًا: "حَتَّى بَلَّغُوا إِلَيْهِ صُرَاخَ الْمِسْكِينِ، فَسَمِعَ زَعْقَةَ الْبَائِسِينَ" (أيوب 28:34). "لأَنَّهُ لاَ يُنْسَى الْمِسْكِينُ إِلَى الأَبَدِ. رَجَاءُ الْبَائِسِينَ لاَ يَخِيبُ إِلَى الدَّهْرِ" (مزمور 18:9). وقال له المجد في موعظة الجبل: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ" (متى 3:5).
أخي وأختي، لقد كانت رسالة الرب يسوع المسيح رسالة النعمة الغنية القادرة التي لا تفشل. إذ جاء فقيرًا ليغنينا، ضعيفًا ليقوّينا، مهانًا ليعلّينا، صابرًا لينقّينا، وقد أُسلم للموت لكي يحرّرنا ويعطينا الحياة. وهو يدعونا لكي نتشبّه به. فإدراكنا لكل ما عمله الرب يسوع لأجلنا يتطلب منا بكل اختصار أن نقبله ربًا ومخلّصًا بالإيمان الحي بفدائه، والعيش معه بالتقوى والتواضع والصبر. والرب يهدي قلوبنا جميعًا إلى محبة الله وإلى صبر المسيح.