نيسان April 2012
في حياة الإنسان العادية أوقات وأزمنة معينة لا تُنسى إذ هي محفورة في القلب والعقل... هذه الأوقات فيها تغيّرت مسيرة الحياة إلى منعطف مخالف تمامًا لما كانت عليه حياة ذلك الإنسان قبلاً. فإبراهيم لا يمكن أن ينسى الوقت الذي فيه سمع صوت الرب للمرة الأولى حين دعاه ليترك عشيرته وبيت أبيه، وأيضًا لا ينسى الوقت الذي فيه تحقّق الوعد بولادة إسحق.
ويعقوب أبو الأسباط لم ينس الوقت الذي فيه حمل أبناؤه نبأ حياة يوسف وسلطانه على كل أرض مصر، ولم ينسَ الوقت الذي فيه ذهب لرؤية يوسف والإقامة معه بقية عمره.
وفي الحياة الروحية أيضًا أوقات لا تُنسى لأنها كانت همزة الوصل التي ربطت الإنسان بالرب فتحقق ضمان المصير السعيد...
والساعة السادسة التي نحن بصددها في هذا المقال وقت لا يُنسى إذ فيه حدثت أربعة أمور هامة وهي:
أولاً: مقابلة سعيدة، ثانيًا: دعوة مجيدة، ثالثًا: ظلمة شديدة، ورابعًا: شركة وطيدة
أولاً: مقابلة سعيدة
"فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ" (يوحنا 6:4).
وعن هذه المقابلة وجب أن نتعرف على طرفيها وماذا تم فيها وما انتهت إليه؟ أما طرفاها فهما متناقضان تمامًا. الأول هو الرب يسوع والثاني المرأة السامرية والتي استنكف الوحي المقدس أن يذكر اسمها. الطرف الأول سماوي والطرف الثاني أرضي. الأول نور ساطع والثاني ظلمة دامسة. الأول قدوس والثاني كتلة من الشر والفساد. الأول حياة والثاني موت. الأول بركة والثاني لعنة.
أما ما حدث في هذه المقابلة فقد سجل الوحي المقدس حديثها بأسلوب له مذاق خاص وفي تسلسل مدهش، وأغرب ما فيه أن الرب يسوع هو الذي كانت له المبادرة في الحديث إذ قال لها: أعطيني لأشرب... وقد أظهر المسيح في حديثه حكمة غير متناهية وصبرًا وطول أناة لا نعهدهما في أحد غيره - تواصل الحديث المتبادل بين المسيح والسامرية حتى لمس موطن الداء بقوله: "اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَا". فقالت: لَيْسَ لِي زَوْجٌ. فأجابها المسيح قائلاً: "حَسَنًا قُلْتِ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ، لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ". وهنا أدركت المرأة أن الذي يتحدّث معها ليس شخصًا عاديًا بل هو المسيا الذي يُقال له المسيح. "فَتَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ: هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟ فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ".
هذه المقابلة حوّلت حياة السامرية من اللعنة إلى البركة ومن الموت إلى الحياة، من الظلمة إلى النور ومن الخطية والفساد إلى الطهر والبر.
إن اللقاء بالرب يسوع يغيّر مجرى الحياة بجملتها "إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا".
ثانيًا: دعوة مجيدة
"وَخَرَجَ أَيْضًا نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذلِكَ" (متى 5:20).
في هذا النص الكتابي قُدِّمت دعوة شملت جميع الواقفين في انتظار من يطلبهم للعمل. والذين طالت وقفتهم بدأ اليأس يتسرب إلى نفوسهم والاكتئاب يظهر على وجوههم، ويخيل إليَّ أن بعضًا منهم إن لم يكن كلهم بدأت الأسئلة تتزاحم في عقل كل واحد منهم: كيف أرجع إلى أسرتي خاوي اليدين والجيب؟ كيف أقدّم لأسرتي وجبة طعام وأنا لا أمتلك مالاً ولا يوجد في بيتي شيء؟ وكيف ينام أفراد أسرتي بدون طعام؟ وبينما هم على هذه الحالة إذا برجل يتقدم نحوهم سائلاً: لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطالين؟ فقالوا لأنه لم يستأجرنا أحد. فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضًا إلى الكرم فتأخذون ما يحق لكم. ولنلاحظ أن صاحب الكرم لم يدعُ بعضهم بل دعاهم جميعًا، فتنفّس هؤلاء الصعداء وعلت الابتسامة وجوههم لأنهم سيعملون عملاً يأخذون عنه أجرة... ولشدة دهشتهم أنه عندما أعطاهم صاحب الكرم أجرتهم قدّم لهم أجرة يوم كامل. وكم كان سرورهم عظيمًا بذلك فرجعوا إلى أسرهم حاملين ما لذّ وطاب.
وضع الكتاب المقدس مبادئ خاصة بالعمل: "الفاعل مستحق أجرته"؛ "وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَرًا لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ".
إن العمل في الكرم كثير ومتنوّع، فهناك أحجار ينبغي أن تُرفع... وثعالب يجب منعها من الدخول لأنها خطرة على الكرم، فهي تتغذّى على ثماره وتتوالد وتتكاثر، وما يموت منها يُفسد رائحة الكرم... والثمار يجب أن تُجمع وتقدّم لصاحب الكرم... ولا يفوتني أن أركز على أمر غاية في الأهمية وهو: ليس المهم أن يكون العمل كبيرًا بل العبرة في تأديته بأمانة وسرور.
ثالثًا: ظلمة شديدة
"وَمِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ" (متى 45:27).
فوجئ الناس المجتمعون حول صليب المسيح والبعيدون عنه بظلمة دامسة على الأرض استمرّت ثلاث ساعات... ولا شك تساءل الناس قائلين: نحن في منتصف النهار فلماذا أظلمت الدنيا؟ لا شك أن هناك حدثًا غريبًا يحدث على الأرض... نعم، حدثت الظلمة احتجاجًا على ما كان يحدث آنذاك. فالمخلوق يحاكم الخالق... البريء يكلَّل بالشوك ويُجلد ويسير حاملاً صليبًا ثقيلاً ويُتفل عليه ويعيَّر ويُصلب، والمُذنِب المجرم المحترف يُطلق سراحه. وحتى عندما صُلب، صُلب بين لصَّين مجرمَين كانا يعيّرانه قبل أن يصحّح أحدهما خطأه ودافع عن المسيح بقوله: "نحن بعدل ننال جزاء ما فعلنا. وأما هذا فماذا فعل؟" وأضاف قائلاً: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك".
لما وُلد المسيح تبارك اسمه هلت الأنوار معلنة ميلاده المجيد، وعند موته أظلمت الدنيا معلنة موته، وتعاطفت الزلزلة مع الظلمة فشقّت حجاب الهيكل احتجاجًا على الأوضاع المقلوبة.
أخي القارئ، لا تنسَ أن ما تحمَّله المسيح من صنوف العذاب كان بالنيابة عنّي وعنك... ولكن المسيح أخذ مقامنا وناب عنا متحمّلاً الآلام المبرحة حتى الموت "لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ". فليكن شعارك: "لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا"، "وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ".
رابعًا: شركة وطيدة
"صَعِدَ بُطْرُسُ عَلَى السَّطْحِ لِيُصَلِّيَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ" (أعمال 9:10).
صعد بطرس على السطح ليصلي نحو الساعة السادسة فجاع أخيرًا، فاشتهى أن يأكل، وبينما هم يهيِّئون له وقعت عليه غيبة... وكان قد فرغ عقله وقلبه من كل المشغوليات الدنيوية قبل صعوده إلى السطح... فدخل في شركة عميقة مع الرب، وحلّقت روحه في جوٍّ نقي، وانطلق قلبه وفمه متحدثًا مع الرب ذاكرًا نعمته الغنية التي يقيم فيها، شاكرًا الرب على أفضاله الكثيرة وبركاته التي أنعم بها عليه، معترفًا بحاجته الشديدة، طالبًا معونة كاملة للاستمرار في تأدية الرسالة التي كلفه بها ليقوم بها على الوجه الأكمل حتى نهاية حياته. ولو تيسر لنا أن نسأل كل مؤمن عن ما هي أحلى أوقات عمره لسمعنا إجابة واحدة: إن أحلى الأوقات هي تلك التي تُقضى في الشركة مع الرب... ويشاركهم في هذا المرنم الذي قال:
يا طيب ساعات بها أخلو مع الحبيب
يجري حديثي معه سرًا ولا رقيب
أحبائي، إن الصلاة ليست فرضًا يؤديه الإنسان بدون روح بل الصلاة في الحقيقة امتياز عظيم. فعندما نصلي نتحدث لا مع عظيم من عظماء الأرض بل مع الرب ملك الملوك ورب الأرباب والذي تربطنا به أوثق صلة على الإطلاق، وهي صلة الأبوّة والتي أوضحها يوحنا البشير في قوله: "وأما كل الذي قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه". وأكّدها شخص الرب يسوع نفسه عندما قدّم الصلاة النموذجية في عظته على الجبل إذ قال: "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات...".
الرب يسوع المسيح، تبارك اسمه، هو أعظم مثال لنا في الصلاة، ونقرأ كثيرًا في الأناجيل الأربعة عن صلاته ولكني أذكر منها أربعة على سبيل المثال:
"صعد إلى الجبل ليصلي"، "وقضى الليل كله في الصلاة"، "ومضى كل واحد إلى بيته، أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون". وفي ضيعة جثسيماني "قال لتلاميذه: اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلي".
قرأت عن قديسين كُتِب عنهم بعد انطلاقهم للمجد أنهم كانوا يقضون الأوقات الطويلة في الصلاة كل يوم.
الصلاة تكشف لنا إرادة الرب ومشيئته، وتقوينا، وتملأ قلوبنا عزاءً وفرحًا، وتفتح لنا أبواب السماء فتنسكب علينا البركات التي لا تُحصى ولا تُعدّ.
"ينبغي أن يُصلّى كل حين ولا يُملّ".