تشرين الثاني November 2012
رجل الفضاء نيل أرمسترونغ Neil Armstrong، أول من وطأ على سطح القمر في عام 1969، انتقل إلى الأبدية في 25/8/2012. عرف الرب منذ حداثته وكان شهادة حية للرب يسوع المسيح. نشكر الله لأنه يخلص كل إنسان يأتي إليه.
تمدد رجل الفضاء نيل أرمسترونغ في مقعده الوثير داخل الكبسولة بأعلى الصاروخ المعدّ للصعود إلى القمر. وبقي وحيدًا سابحًا بأفكاره في المجهول أكثر من ساعة، واستوى الصاروخ الجبار على قاعدته وسط الضباب، ولم يبق من الزمن إلا خمس دقائق يندفع بعدها – بكل ما في قلبه من متفجرات - حاملاً أول رجل إلى القمر، وبداخله من الوقود والمعدات ما يكفي لإعادته إلى الأرض.
واتجهت أفكار الرجل في هذه الدقائق الأخيرة إلى أفراد أسرته، وكانت زوجته قد وضعت في يده وهو خارج من منزله في اليوم السابق بطاقة صغيرة كتبت عليها هذه الآية: "إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ" (مزمور 8:139).
وها هو الآن يتطلع إلى هذه الآية المقدسة التي ثبتها أمامه على لوحة الأجهزة. وابتدأ العداد يشير إلى الثواني العشر الأخيرة. فأغمض عينيه وصلى صلاة قصيرة، ثم أرخى عضلاته كما تعلم أن يفعل في تدريباته من قبل. وسرعان ما أُشعلت الوقود فدوت المحركات، واهتزت السفينة بعنف واندفعت إلى أعلى. وأشار عقربٌ أمامه إلى ازدياد الجاذبية أضعافًا مضاعفة، ثم شعر بانفصال الجسم الأول من الصاروخ، كما شعر بتفجير الوقود لدفعه في المرحلة الثانية مخترقًا حجاب الغلاف الأرضي.
وضغط الرجل على أحد الأزرار فتحرك جزء من غطاء السفينة كاشفًا عن ثلاث نوافذ صغيرة استطاع من خلالها أن يرى الفضاء الفسيح. كان الصاروخ يندفع بسرعة 25000 ميل في الساعة، وظهرت أمام المغامر الغريب ملايين النجوم دون أن يميّز واحدًا منها على وجه التحديد، لأنه بسرعة كان يغيّر مكانه في ذلك الفضاء المترامي بغير حدود، فلا فوق ولا تحت، ولا شمال ولا جنوب.
وفي وسط ذلك الفراغ المروع جاءه على موجات الأثير صوت مألوف: "هنا المحطة الأرضية... هل تسمعنا؟ المرحلتان الأولى والثانية تمّتا بكل دقة". وأجاب رجل الفضاء بصوت متفائل واضح ردًا على أصدقائه على الأرض: "الصاروخ يعمل بنظام تام... كل الأنوار أمامي خضراء".
وبدأت الآن مرحلته القاسية، مرحلة العزلة التامة وساعات القلق الرهيبة، وحالة انعدام الوزن وهو يمر في الفضاء بهذه السرعة الخاطفة، واستمرت مرحلته القاسية هذه ستين ساعة أو يومين ونصف اليوم. وأخيرًا بدت له من نافذته رؤوس الجبال فوق سطح القمر.
ما أعجب المنظر! نتوء هنا وبروز هناك... صفاء بللوري شامل... وديان رملية عميقة... جبال شامخة ناصعة البياض... سهول ترابية مترامية الأطراف... هذه كلها لاحت أمامه ثم اختفت حالما اعتدلت المركبة الفضائية استعدادًا للهبوط فوق سطح القمر. فاستعدّ للنزول ولبس بدلة الفضاء وأوصلها بأنبوبة الأوكسجين. وكان هبوط المركبة الفضائية واستقرارها سهلاً لقلة الجاذبية هناك. وشعر بأرجل الكبسولة المعدة للهبوط تغوص في تراب القمر. ثم توقفت الحركة وساد السكون!
لقد وصل... وأمسك بجهاز الإرسال يقول لأهل الأرض: "تمت المعجزة... ها أنا وصلت... لقد انتصرنا". وخرج من باب المركبة! إنه أول إنسان في التاريخ تطأ قدماه سطح القمر.
وبدأ العمل في مهمته العلمية طبقًا لبرنامج دقيق أُعدّ لتنفيذه. فجمع عينات من تراب القمر، وأخرى من صخوره ومعادنه، وقام بتجارب في النشاط الإشعاعي، والتقط صورًا للكواكب المرئية، وبعث بمشاهداته عبر الأثير إلى العلماء الملهوفين في الأرض.
لكن منظمي الرحلة إلى القمر لم يفهموا أن رجل الفضاء سيخلو إلى نفسه ويستجيب لعوامل أخرى غير تلك التي أوكل إليه أن يقوم بها من الناحية الفنية، فتركوا له ساعة كاملة يفكر فيها بكامل حريته قبيل عودته... ساعة يفعل بها ما يشاء!
وبسبب انخفاض الجاذبية مشى الرجل بخفة فوق الرمال، وبسهولة قفز في الهواء قفزتين، وتسلق إحدى التلال، وأخذ يتأمّل... لم تكن هناك حركة ولا صوت. إن الشعور بالعزلة التامة، والصمت المطبق المحيط به، والقفار الموحشة من حوله جردت عقله من مجموعة الاختبارات التي يحملها كل كائن حي. وبطريقة ما، لم يستطع الهروب من شعور طاغ بأن ساعة العزلة الداخلية هذه، قد تكون هي السبب الذي من أجله سمحت العناية الإلهية للإنسان أن يعبر الفضاء ويصل إلى القمر. وفجأة غمره الإحساس بأنه إنما وصل إلى هنا ليلتقي بشخص ما، أو يستمع إلى صوت ما، أو إلى رسالة ما يحملها هو إلى الجنس البشري.
وتفرّس الرجل في سطح القمر مذهولاً. وبينما هو في تلك العزلة الداخلية والصمت الروحي العميق سمع الرسالة التالية:
"أيها الإنسان القادم من الأرض، أنت واقف على كوكب سماوي لم يتدنس بعد. انظر عبر هذه السهول المترامية، وتأمل تلك الجبال الشامخة. إنها خالية من كل أثر للشر والخطية. إن كذبة واحدة لم يُنطق بها بعد في هذا المكان. ونقطة دم واحدة من دماء الحرب لم تُسفك بعد على هذا الكوكب. أيها الإنسان القادم من الأرض، أنت محظوظ بهذه الساعة تقضيها في جوّ طاهر. إن الكون كله كان في مثل هذه النقاوة يوم صنعَتْه يد الله القوية. وكذلك كانت الأرض يوم أعطاها الرب الإله للإنسان".
وأصغى رجل الفضاء مأخوذًا بالرسالة وعمق معناها، ولم يلبث أن جاءه صوت يوحنا الحبيب يقول: "كنت في الروح في يوم الرب... ثم رأيت سماء جديدة وأرضًا جديدة...".
ووَمُضَ في ذهن الرجل أن الرؤيا حقيقة واقعة. إنها أمامه في ملء السمع والبصر. إنه واقف فعلاً وسط سماء جديدة وأرض جديدة لم يدخلها شيء دنس. ورفع بصره في تلك اللحظة فرأى شيئًا من أغرب وأروع ما رأت عين بشرية... رأى ما لم تره عين منذ بدء الخليقة... هناك من طرف القمر، من خط الأفق الدائري على مدى البصر برزت الكرة الأرضية في مدارها مشرقة لامعة. فتسمّر في مكانه مشدوهًا من روعة المنظر. وفي لمحة انتقلت عينه من قطب إلى قطب تكسوهما جبال من جليد، وبينهما المحيطات والقارات يتوسطها بساط عريض من السحب البيضاء.
تلك الكرة التي تدور أمامه في بطء تحمل في صدرها كل ما هو عزيز لديه. فعلى الجانب من هنا قارة أميركا موطن الأسرة... زوجته وأطفاله والأهل والأصحاب، وهناك على الجانب الآخر قارات أفريقيا وأوربا وآسيا متجهة نحو الشمس الطالعة. وبدت له الأرض نقية جميلة مثل القمر، لأنه – وهو على ذلك البعد الشاسع منها – لم يستطع أن يبصر أثرًا واضحًا للشر والطمع.
لكن رجل الفضاء كان مخلوقًا بشريًا. إنه إنسان! إنه جسد من تراب الأرض أُخذ. وقد شعر الآن بجسدانيته الترابية كما لم يشعر بها قط من قبل. فخرّ على وجهه في رهبة وخشوع وصلّى لإلهه قائلاً:
"أيها السيد الرب، ويل لي لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن وسط شعب نجس الشفتين... لقد ملأنا أرضنا بالحقد والكذب والحسد والفجور... يا أبانا اغفر لنا ذنوبنا".
فقال الله لرجل الفضاء: "أيها الإنسان الآتي من الأرض، إني بكل شيء عليم. لقد أحببت أنا تلك الأرض، وأرسلت إليها المسيح في ملء الزمان. فجال في طرقاتها الظليلة يصنع خيرًا، وفي ساحاتها الجميلة أشبع الجموع الجائعة خبزًا، ومن عيونها الصافية شرب الماء نقيًا عذبًا، ومن ينبوعه الجاري سقى السامرية، والمجدلية، والظامئ والسقيم شفاء وطهرًا. وأخيرًا غرسَتْ خطاياكم في جبينه شوكًا، وفي جنبه سيفًا، ومن كأسها أعطوه علقمًا ومرًا، وعلى خشبة سمروه وقتلوه صلبًا.
ومع ذلك ما زلت أثق في خليقتي لأن ألوفًا منهم وربوات لم يحنوا هاماتهم بعد لعدو الخير. وما زلت أسمع صلواتهم وتوسلاتهم الخالية من الأثرة. وما زلت أجد الإيمان والرجاء والمحبة باقية على ذلك الكوكب. إن الطهر والحق في الأرض قد يخبو نورهما بين حين وآخر. لكن اذكرْ دائمًا أن البر والسلام مستمران في ملكوتي الأزلي، لا يعوق استمرارهما عائق. يا رجل الفضاء عد إلى الأرض وها أنا معك كل الأيام".
وحان الوقت ليخاطب الرجل أهل الأرض، فقد انتهت الساعة المحددة لعزلته، فماذا عساه يفعل أو يقول عما سمع ورأى بعد هذه الساعة النورانية؟!
فتح الرجل جهاز الإرسال في الوقت الذي أنصت سكان الأرض ليسمعوه، فإذا به يذيع على الملأ هذه الرسالة:
"أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ".
وبدون أن ينطق بكلمة أخرى أوقف الإرسال وصعد إلى مركبته في طريق العودة إلى الأرض.