أذار March 2013
الإنسان دائمًا يرسم لحياته في مخيلته أمورًا توافق أهواءه وميوله وأمزجته ظانًا أنها منطقية وطبيعية. ولكن بعد وقت، إن طال أو قصر، سيصدمه الواقع عندما يكتشف أن كل الأمور تسير عكس ما رسمه وأن ما رسم ما هو إلا وهمًا ومن وحي الخيال - يخيل إلي أن شعب إسرائيل عندما خرج من أرض مصر تنفسوا الصعداء ظانين أن كل المتاعب قد انتهت وذهبت بلا رجعة، إلا أنه بعد وقت قصير جدًا كانوا في موقف لا يحسدون عليه، فالمصريون بجيوشهم ومركباتهم يطاردونهم، والبحر أمامهم، ففزعوا جدًا وصرخوا إلى الرب وتدخّل الرب بقوة وأنقذهم وأهلك أعداءهم بعدها ظنوا أن هذه هي آخر الصعوبات. ولكن بعد ذلك واجهتهم ظروف كثيرة صعبة ومعقدة جدًا.
عندما افترق لوط عن عمه إبراهيم كان يمني نفسه باتساع ممتلكاته، وبغنى أعظم مما كان لإبرهيم، وأنه سيحقق نجاحًا باهرًا في دائرة الأردن التي اختارها بعد أن رأى أنها خصبة كجنة الرب كأرض مصر. ولكن في يوم من الأيام اصطدم بالحقيقة المرة وخرج منها صفر اليدين بعد أن ترك كل ممتلكاته لحريق النار عندما غضب الرب على سدوم وعمورة لشر وفساد سكانهما وأنزل عليهما نارًا وكبريتًا.
قد نفاجأ كثيرًا في هذه الحياة بأوضاع مقلوبة - يحدثنا الوحي المقدس بلسان سليمان الحكيم قائلاً: "الجهالة جُعِلت في معالِيَ كثيرة، والأغنياء يجلسون في السافل. قد رأيت عبيدًا على الخيل، ورؤساء ماشين على الأرض كالعبيد". وبحسب النظرة البشرية فإن هذه الأمور تتناقض مع العقل والمنطق، والرب يسوع يريدنا أن لا نشغل عقولنا بمثل هذه الأمور فأعلن لنا بفمه الطاهر قائلاً: إن كنتم لا تفهمون الآن لكنكم ستفهمون فيما بعد. ويقصد الرب يسوع أن لا نضيع وقتنا في التفكير في الأوضاع التي لا يقبلها عقلنا ومنطقنا، وفي الأصحاح الثالث من سفر الأعمال تتحدث كلمة الله عن أزمنة رد كل شيء... تلك الأزمنة التي فيها تستقيم الأوضاع ويبقى كل شيء في مكانه. وأريد بنعمة الله أن أحدثكم في ثلاثة كلمات:
أولاً: الوضع المقلوب، ثانيًا: السر المحجوب، ثالثًا: الواجب المطلوب
أولا: الوضع المقلوب
في حياتنا اليومية العامة نجد أوضاعًا كثيرة مقلوبة رأسًا على عقب. فالحق غالبًا ما يكون منخفض الرأس بينما رؤوس الكذب والزور والبهتان مرتفعة - التقي والبار يُهان ويُذلّ بينما الشرير الأثيم يكرّم ويرتقي. يوسف الطاهر العفيف الذي رفض السقوط في الشر والخطيئة قال: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟" ثم تنقلب الأوضاع، ويصير متهمًا، ويدخل السجن، وامرأة فوطيفار - المجرمة الحقيقية - في بيتها تتمتع بكامل حريتها!
داود الذي خلّص شعب الله من العار الذي سببه كلام جليات الفلسطيني الذي استمر مدة أربعين يومًا صباحًا ومساءً معيرًا شعب الله يكون مطارَدًا في الجبال ومدن الأعداء وشاول الجبان يجلس على كرسي ملكه! وأغرب من ذلك أنه هو الذي يطارد داود ساعيًا ليجد فرصة لقتله.
مردخاي الرجل التقي الذي أبى أن يحني رأسه لغير الله يبقى جالسًا عند الباب خارج القصر وهامان الشرير الرديء يتمتع داخل القصر بالخير كله وينال يوميًا تكريمًا من الملك. وأكثر من ذلك، يضع خطة محكمة للقضاء على مردخاي وشعبه!
خمسة أشخاص في الكتاب المقدس رأوا وضعًا مقلوبًا بخصوص الأشرار: الشخص الأول هو أيوب الذي يسأل سؤالاً استنكاريًا يقول فيه: لماذا تحيا الأشرار؟ وذكر بعض الامتيازات التي يتمتعون بها (أرجو أن يرجع القارئ إليها في سفر أيوب ص21).
الشخص الثاني هو داود في مزمور 37 يقول: "رأيت الشرير عاتيًا وارفًا مثل شجرة شارقة ناضرة".
والشخص الثالث هو آساف المرنم في مزمور 73 يقول: "غرت من المتكبرين اذ رأيت سلامة الأشرار". ويذكر بعض الامتيازات التي يتمتعون بها.
والشخص الرابع هو إرميا. في الأصحاح 12 يسأل أيضًا سؤالاً استنكاريًا: "لماذا تنجح طريق الأشرار؟"
والشخص الخامس هو حبقوق. في السفر المسمّى باسمه، الأصحاح الأول يقول للرب: "عيناك أطهر من أن تنظرا الشر، ولا تستطيع النظر إلى الجور، فلِمَ تنظر إلى الناهبين، وتصمت حين يبلع الشرير من هو أبرّ منه؟".
وأكثر الأوضاع المقلوبة غرابة هو ما حدث مع الرب يسوع منذ ولادته حتى موته. فعند ولادته ولد في مزود بقر، وفي حياته لم يكن له أين يسند رأسه، وفي نهاية خدمته يُقبض عليه مثل المجرمين، ويحاكَم من البشر وهو خالقهم، ويوضع على رأسه إكليلاً من الشوك، ويُجلد، ويُبصق عليه، ويُستهزأ به، ويُصلب مع أثمة ومجرمين!
ترى، هل يوجد في هذه الأمورالمقلوبة سر محجوب عنا؟ الجواب: نعم، وهذا ما يقودني إلى الكلمة الثانية.
ثانيا: السر المحجوب
توجد أسرار مخفية عنا لا بد أن تُعلن في الحياة إن آجلا أو عاجلاً. ففي الأحداث التي ذكرتها كُشفت بعض الأسرار بعد فترة وجيزة وأخرى بعد وقت طويل.
ففي حادثة يوسف الشاب الطاهر الذي سُجن ظلمًا... في ذلك السجن المكان الكئيب فسّر يوسف حلمين لشخصين تحققا بحذافيرهما تمامًا بحسب تعبير يوسف لكل منهما. وبعد سنتين حلم فرعون حلمين لم يجد لهما تفسيرًا عند جميع حكمائه، فاقترح رئيس السقاة - أحد المسجونَين اللذَين فسر لهما يوسف حلميهما - أن يستدعي يوسف من السجن. فهو الوحيد الذي يستطيع أن يفسر حلمَي الملك فرعون، وبالفعل فسر يوسف حلمَي فرعون تفسيرًا اقتنع به الملك وجميع عبيده كل الاقتناع، وخرج من لديه بعد أن خلع الملك عليه خاتمه وألبسه ثياب بوص، ووضع طوق ذهب في عنقه، وأركبه في مركبته الثانية، وجعله سيدًا على كل أرض مصر.
وبخصوص داود سمح الرب للملك شاول أن يموت في الحرب لينصّب داود ملكًا عوضا عنه.
وفي حادثة مردخاي نقرأ أن الرب أقلق الملك أحشويروش فأمر أن يؤتى بسفر تذكار أخبار الأيام فوجد مكتوبًا ما أخبر به مردخاي عن بغثانا وترش حارسَي الباب اللذَين طلبا أن يمدّا أيديهما إلى الي الملك. فسأل الملك: "أية كرامة وعظمة عُملت لمردخاي لأجل هذا؟" فقال غلمان الملك: "لم يُعمل معه شيء". وإذا بهامان داخل فسأله الملك: "ماذا يُعمل لرجل يُسَرّ الملك بأن يكرمه؟" فقال: يلبسونه اللباس السلطاني الذي يلبسه الملك، ويركّبونه على الفرس الذي يركبه الملك، ويضعون على رأسه تاج المُلك.. وينادي أحد العظماء أمامه قائلاً: "هكذا يُصنع للرجل الذي يُسرّ الملك بأن يكرمه". فأمر الملك هامان أن يفعل كل ما قاله بحذافيره لمردخاي، ورفع الرب مكانة مردخاي، وكرّمه الملك، وأعطاه لباسًا ملكيًا أسمانجونيًا وأبيض، وتاجًا عظيمًا من ذهب، وحلة من بزّ وأرجوان، وصار عظيمًا جدًا في بيت الملك.
وبخصوص الأشرار، نقرأ عنهم عدة عبارات:
"في لحظة يهبطون إلى الهاوية" كما قال أيوب. وأيضًا، "عبر فاذا هو ليس بموجود" كما قال داود. وكما قال الرب لحبقوق "إن توانت فانتظرها لأنها ستأتي (دينونتهم) إتيانًا ولا تتأخر". فلا ينبغي أن نغار منهم ونحسدهم لأنهم "مثل الحشيش سريعًا يُقطعون ومثل العشب الأخضر يذبلون". حقًا "إنهم مساكين" كما يقول إرميا. والرب يسوع كان راضيًا بكل ما حدث معه لأجل خلاصنا من خطايانا وذنوبنا وآثامنا، "فهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا". "أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا". لقد رضي بكل ما حدث معه "من أجل السرور الموضوع أمامه"، وهذا السرور يقصد به جماعة المؤمنين... حوكم لكي ينقذنا من الدينونة، ومات ليحيينا... تألم ليحمل أحزاننا وأوجاعنا.
ثالثا: الواجب المطلوب
أن يكون عندنا ثقة أن الرب هو المهيمن والمسيطر على كل الأمور، وأننا لسنا عرضة للظروف والصدف، ولا توجد أمور تحدث إلا بأمره أو بسماح منه، وإن كان يبدو لنا أن الأحداث ليست في صالحنا، لكن في يوم من الأيام سنكتشف أنها للخير.
نعم أيها الأحباء، يأخذ الرب الأمور المقلوبة التي تخالف في نظرنا العقل والمنطق ويحوّلها إلى بركات، كما نرى في كلمات يوسف لإخوته: "أنتم قصدتم لي شرًا، أما الله فقصد به خيرًا". إن الشيطان يحاول جاهدًا أن يشكّكنا في إلهنا ويقنعنا أن الظروف والأحوال كلها ضدنا، لكن لا يجب أن ننساق وراءه بل نتذكر دائمًا أن "كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله".
أعجبتني عبارة نطقت بها أخت تقية مضمونها: "كلما صادفتني ظروف صعبة أذهب سريعًا إلى (رومية 28:8)، والتي اعتبرها المقعد الهزاز والمريح لنفسي المتعبة".
اختم رسالتي بهذه النصائح الغالية:
1- أشكر: "اشكروا في كل شيء".
2- أصبر: "قد سمعتم بصبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب".
3- أنظر: "نظروا إليه (الرب) واستناروا، ووجوههم لم تخجل".