آب Agust 2013
في فترة خروج بطرس من السجن (أعمال 12:12)، رجع بولس وبرنابا إلى أورشليم من أنطاكيا (ثالث أكبر مدينة رومانية) حيث خدما في كنيسة أممية وجمعا تقدمة لتسديد احتياجات الكنيسة في أورشليم.
ففي طريق العودة من أورشليم إلى أنطاكيا قرر بولس وبرنابا أن يصطحبا "يوحنا الملقب مرقس" ليساعدهما في الخدمة (أعمال 25:12).
وخلال الرحلة صادف فريق الخدمة (بولس وبرنابا ومرقس) أتعابًا ومشقات كثيرة. إذ تقابلوا مع ساحر اسمه باريشوع كان مع الوالي سرجيوس الذي أراد أن يسمع عن الإيمان بيسوع المسيح. إلا أن الساحر قاومهم بشدة. وثم أصيب بولس بالمرض بعد سفر وتجارب عديدة. فما بدا أنه فرصة ذهبية لمرقس لينخرط في الخدمة أضحى كابوسًا يلاحقه كل يوم. ونظرًا لهذه الظروف، قرر مرقس أن يترك الخدمة. وبلغة الكتاب المقدس، وضع يده على المحراث لكنه نظر إلى الوراء. ترك منصبه الذي أعطاه إياه الرب وفضّل حياة الراحة والرجوع إلى بيته في أورشليم.
لم يكن هناك أيّ مبرر لمرقس أن يترك بولس وبرنابا ويتولاه شعور عدم الرغبة في استكمال المسيرة. وهذا الحدث كان سبب اختلاف بولس وبرنابا (أعمال 15) عندما عزما أن يباشرا في الرحلة التبشيرية الثانية.
لقد ذكّر بولس برنابا بأن مرقس "فارقَ"، أيّ إنه ما زال ضعيفًا وقد يتركهما مع دخولهما في أيّ تجربة صغيرة. فمرقس أثبت لبولس عدم قدرته على تحمّل المسؤولية وعدم ثقته في الرب.
والجدير بالذكر أن برنابا تربطه علاقة قرابة بمرقس (كولوسي 10:4) ولذلك أراد أن يأخذه معه متغاضيًا عن ضعفه.
فنرى هنا الخادم الفاشل الذي يتخبط في موقفه محاولاً أن يبني الثقة التي خسرها مع بولس. لكن القصة لم تنتهِ هنا.
مرقس شريك الخدمة
بعد أن فارق مرقس بولس وبرنابا في الرحلة التبشيرية الأولى، لا بد أنه شعر بالخزي والحرج الشديد بعد أشهر من رجوع بولس وبرنابا من رحلتهما. فعندما رجعا إلى أورشليم وأعطيا تقرير الخدمة (أعمال 3:15-4) يقول الكتاب:
اجْتَازُوا فِي فِينِيقِيَةَ وَالسَّامِرَةِ يُخْبِرُونَهُمْ بِرُجُوعِ الأُمَمِ، وَكَانُوا يُسَبِّبُونَ سُرُورًًا عَظِيمًا لِجَمِيعِ الإِخْوَةِ.
وَلَمَّا حَضَرُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَتْهُمُ الْكَنِيسَةُ وَالرُّسُلُ وَالْمَشَايخُ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِكُلِّ مَا صَنَعَ اللهُ مَعَهُمْ.
لا بد أن مرقس كان حاضرًا في ذلك الوقت. وكان يتمنى لو أنه لم يفارق بولس وبرنابا.
آخر مرة نسمع فيها عن مرقس في سفر أعمال الرسل وتاريخ الكنيسة كان في أعمال 39:15 "فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ حَتَّى فَارَقَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ. وَبَرْنَابَا أَخَذَ مَرْقُسَ وَسَافَرَ فِي الْبَحْرِ إِلَى قُبْرُسَ". لكن اسمه يظهر مرة أخرى بعد 10 سنوات في مكان غير متوقع البتة.
كان بولس مسجونًا في روما. فكتب رسالته إلى أهل كولوسي. وفي نهاية الرسالة ذكر أسماء كل الأشخاص الذين كانوا يخدمونه ويشتركون في احتمال مشقات الإنجيل. ويا للعجب! كان من ضمن هؤلاء الأسماء: يوحنا الملقب مرقس.
لقد تغيرت، بكل تأكيد، نظرة بولس لمرقس رأسًا على عقب. فقبل 10 سنوات اعتبره بولس غير نافع وجبانًا، وإنسانًا تخلى عن خدمته ومركزه. أما الآن، فنرى الرسول بولس يبرزه ويظهره بأنه شريك الخدمة ومن أقرب المقربين له.
وعلاوة على ذلك، ذكره بولس أيضًا في رسالته إلى فليمون حيث قال: "وَمَرْقُسُ، وَأَرِسْتَرْخُسُ، وَدِيمَاسُ، وَلُوقَا الْعَامِلُونَ مَعِي" (فليمون 24).
لقد تحوّل مرقس من بعيد وشريد إلى خادم شريك وعامل في حقل الخدمة. هذا ما يصنعه الله معك ومعي.
إضافة إلى ذلك، عندما سُجن الرسول العظيم بولس في روما للمرة الثانية، كان يعلم أن أيامه معدودة، فكتب رسالته الثانية والأخيرة إلى تيموثاوس، وذكر فيها مرقس مستخدمًا كلمات ترسم واقعًا مختلفًا وتجسد تغيّرًا جذريًا في حياة مرقس فقال: "خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ" (2تيموثاوس 11:4).
في الأعداد السابقة كتب بولس عن ديماس الذي أحب العالم وترك الخدمة. وهنا نرى بولس الآن في احتياج شديد في آخر أيامه لتلميذ تائب اسمه "مرقس" لأنه نافع للخدمة؛ هذا الذي ترك الخدمة وفارق الشركة يعود من جديد ليستخدمه الرب بمباركة الرسول بولس نفسه.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تغيّر مرقس؟ هل من يترك الخدمة يرجع إليها ويستخدمه الرب بقوة مضاعفة؟ الإجابة نستنتجها من علاقة مرقس ببطرس.
لا أحد يستطيع أن يعين ضعفك إلا إذا كان قد ضعف من قبلك. بطرس ترك الرب، وتبعه من بعيد، وسبّ، ولعن وأنكر بأنه يعرفه ثلاث مرات، لكنه عاد تائبًا بنشاط غير مسبوق. لقد كان بطرس هو الذي أخذ مرقس تحت جناحه وتلمذه واعتنى به روحيًا. كيف نعرف ذلك؟
الإجابة تأتي من بطرس نفسه: "تُسَلِّمُ عَلَيْكُمُ الَّتِي فِي بَابِلَ الْمُخْتَارَةُ مَعَكُمْ، وَمَرْقُسُ ابْنِي" (1بطرس 13:5).
لم يكن مرقس ابنًا لبطرس بالجسد، بل كان ابنه الروحي بدون شك. كان لا بدّ أن مرقس قد سمع عظات بطرس عندما كان الرسل يجتمعون في بيت أمه مريم في أورشليم، وعلى الأرجح أنه سلّم حياته للرب بواسطة بطرس.
كما أن تاريخ الكنيسة يذكر بأن بطرس كان يخدم في روما خلال احتجاز بولس، ومن خلال ما ذكره عن مرقس في رسالته، نستطيع أن نستدل بأنه كان مع بطرس في خدمته في روما. هنيئًا لك يا مرقس لأنك تمتعت برفقة أعظم الرسل بولس وبطرس أيضًا.
كاتب الإنجيل بحسب مرقس البشير
مع أن الإنجيل الثاني، إنجيل مرقس، لا يذكر اسم كاتبه، إلا أن آباء الكنيسة اتفقوا بالإجماع على أن الكاتب كان مرقس ابن مريم ابن أخت برنابا أو يوحنا الملقب مرقس.
الأب بابياس سجّل في تاريخ الكنيسة أن إنجيل مرقس يحتوي على عظات مدوّنة لبطرس. والقديس يوستينوس الشهيد أكد في كتاباته أن إنجيل مرقس هو عبارة عن مذكرات بطرس التي تذكرها عندما كان مع الرب لمدة ثلاث سنوات ونصف.
والقديس يوسابيوس أيضًا أكد أن مرقس هو كاتب الإنجيل الذي هو عبارة عن تعاليم بطرس في الكنيسة.
إذا ألقينا الضوء على إنجيل مرقس، الذي يتكون من 16 أصحاحًا، ودرسناه من منتصفه (مرقس 29:8) نجد بأنه يسجل ردّ بطرس ليسوع "أنت هو المسيح". والمثير للإعجاب أن كل الآيات من الأصحاحات الأولى تشير إلى هذا العدد وكل الآيات التالية في الأصحاحات التي بعده تؤكد وتبرهن هذا العدد. فأول ثمانية أصحاحات تتكلم عن أفعال وأقوال يسوع، والأصحاحات الثمانية الأخيرة تتكلم عن موته وقيامته.
من هذا نستخلص أن إنجيل مرقس إنجيل تبشيري وكرازي من الدرجة الأولى.
يا لنعمة الله الغنية أن نجد نفس الشخص الذي ترك الخدمة وفارق رجال الله، ولربما ترك الكنيسة أيضًا، هو بعينه كاتب الإنجيل المقدس الذي بين أيدينا!
هذه هي نعمة الله المغيّرة، التي تغيرني وتغيرك والقادرة أن تصنع مني ومنك أبطالاً في الإيمان لمجد الرب يسوع وامتداد ملكوته.