آب Agust 2013
بينما كنت أقرأ مؤخرًا سيرة أحد الأدباء العرب ميخائيل نعيمة بخط يده، وهو الذي وُلد في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لفت انتباهي أمر هام وهو أن حقيقة الإنسان من الداخل هي واحدة بغض النظر عن العصر الذي يعيشه، والاختراعات الحديثة المتعددة وتطور المجتمع. فعندما كان ميخائيل نعيمة شابًا يافعًا كانت بلاد الشام ما زالت تحت الحكم العثماني، وكان يتنقل على الدواب أو بواسطة القطار البخاري، أو السفن القديمة.
والذي لاحظته أنه كانت تعتمل في داخله نفس المشاعر والعواطف والأحاسيس التي نلمسها اليوم في حياة أي شاب. لا بل إنه كان يطرح نفس التساؤلات التي قد يطرحها الكثيرون في أيامنا هذه بالنسبة للمسيحية والشرائع الدينية. وكان ينتقد المسيحية الإسمية الممثلة بالطوائف وسلطة رجال الدين وسيطرتهم على الناس. وكان يظن أن الديّن هو في التعامل السليم مع الآخرين والقيام بالأعمال الصالحة. لكنه في نفس الوقت كان صادقًا في التعبير عمّا يجول في داخله من شهوات فاسدة، واعترف بصعوبة السيطرة عليها والحد من تأثيرها ليس بالنسبة له فقط، بل لجميع البشر.
وإذا عُدنا إلى أيام الرب يسوع المسيح، نجد أن الناس في زمانه، لا سيما جماعات الفريسيين والصدوقيين والكتبة، كانوا يجادلون المسيح بكل حنكة ودهاء، ويطرحون عليه التساؤلات العديدة المهمة. أي كانوا يعبّرون عمّا يعتمل في داخل النفس البشرية من أفكار وتساؤلات، بالرغم من أنهم كانوا ينطلقون من مفهوم ديني يهودي بحت. لكن الرب يسوع بكونه ابن الله الأزلي كان دائمًا يُفحمهم ويُسكتهم، وهذا ما زاد من حنقهم وغضبهم عليه.
وهناك بالطبع العديد من الشواهد والأمثلة. كسؤالهم للمسيح أيجوز أن تُعطى جزية لقيصر أم لا؟ فكان جوابه الساطع: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مرقس 17:12). وعندما أتى الناموسي ليجرّبه قائلاً: يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ أجابه بما هو مكتوب في الناموس. لكنّ هذا الناموسي إذ أراد أن يبرر نفسه سأل المسيح: ومن هو قريبي؟ فأجابه المسيح بمثل السامري الصالح (لوقا 25:10-37). وكان المسيح يقرأ أفكار المعلّمين اليهود، فعندما احتجوا عليه لغفرانه خطايا الإنسان المفلوج، متسائلين في أفكارهم: من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده؟ قرأ أفكارهم وقال لهم: "لكي تعلموا أنّ لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا" (لوقا 21:5-24).
لعلّ القصة المثيرة للاهتمام والتي تؤكد على حقيقة أفكار الإنسان وتساؤلاته من الداخل، هي قصة شفاء المسيح للرجل الذي وُلد أعمى. فكان سؤال التلاميذ الطبيعي والذي ما زال يُطرح من قبل الكثيرين في قصص مشابهة وحتى يومنا هذا: أهذا أخطأ أم أبواه حتى وُلد أعمى؟ وبعدما شفاه المسيح حدثت البلبة. فالبعض قالوا إنه الأعمى وآخرون إنه يشبهه. وعندما أتوا به إلى الفريسيين حصل انشقاق بينهم، إذ قال قوم منهم: إن المسيح ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت، بينما قال آخرون: كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات؟ حتى أن البعض من اليهود لم يصدّق أنه كان أعمى وأبصر، إلى أن دعوا أبويه. ثم أخذوا يحققون مع الأعمى نفسه (يوحنا 9). المهم في هذه القصة أن الناس في عصر المسيح لم يكونوا بسطاء ساذجين كما يظن البعض، بل كانوا يفحصون الأمور بكل تدقيق، ويريدون التأكد من صحّة الخبر الذي نُقل إليهم، لا بل أن يفرضوا رؤيتهم هم كما نقول اليوم على الحدث. أليس هذا ما نفعله نحن اليوم؟ فعندما يقع حدث معيّن نريد التأكد من صحته، ونلجأ إلى المصادر الحقيقية لكي نتحقق منه، ونحاول نقله بحسب مفاهيمنا ورؤيتنا.
إن حقيقة الإنسان من الداخل هي واحدة، سواء عاش قبل المسيح بمئات السنين أم في عصر المسيح، أم بعد المسيح بمئات السنين أيضًا. إن الاختراعات وتطور وسائل العيش لم تبدّل من حقيقة داخل الإنسان. صحيح أن المعرفة زادت بمئات لا بل بآلاف المرات، وصحيح أن الإنسان اليوم يعيش مرفّهًا بالمقارنة مع الإنسان في العصور القديمة، وصحيح أنه يتنقل وبسرعة زمنية لا سابق لها من بلد لآخر، ومن قارة لأخرى، وصحيح أن وسائل الاتصال الاجتماعي أصبحت متطورة جدًا وبشكل لم يكن يحلم به أحد، لكن كل هذا لم يبدّل قيد أنملة من حقيقة داخل الإنسان.
ولعلّ من أهم ما يعتمل في داخل الإنسان، كما يخبرنا الكتاب المقدّس، وكما اعترف ميخائيل نعيمة هو الخطيّة والشهوات الشريرة التي ما زالت تستعبده. ألم يغضب الله على الإنسان قديمًا فأرسل إليه الطوفان في أيام نوح بسبب شره المتزايد وفساده؟ ألم يدمّر الله سدوم وعمورة بسبب شرّهما القبيح؟ أو لم يَدِنِ الله شعوبًا كثيرة بما فيها شعبه القديم بسبب شرّهم وارتدادهم عنه؟ وهذا كان قبل مجيء المسيح بمئات السنين. أو لم يكتب الرسول بولس في الأصحاح الأول من الرسالة إلى رومية عن شر الإنسان المستفحل في زمانه، وكيف أسلم الله هؤلاء الناس إلى ذهن مرفوض؟
إن الشرّ كان وما يزال هو في طبيعة الإنسان من الداخل. ولقد كانت هذه هي سمة الإنسان في كل زمان ومكان. وما نسمعه اليوم وما نراه من استفحال للشر، وازدياد للحروب والثورات وأعمال القتل البغيض التي يندى لها الجبين، ما هو إلا تأكيد لحقيقة الإنسان في الداخل.
لعلّ السؤال البديهي الآن هو: أمام هذه الصورة القاتمة، ما هو موقف الله؟ أو ما هي خطّته لإنقاذ الجنس البشري من الهاوية التي انحدر إليها؟ إن الله منذ الأزل وقبل خلقه للإنسان، قد هيّأ الخلاص للجنس البشري عن طريق إرساله الابن الوحيد الرب يسوع المسيح، وعمله الكفاري على الصليب وقيامته الظافرة من بين الأموات. ودعا الإنسان لكي يتوب ويؤمن بهذا المخلّص الفريد، حتى يتحرر من عبودية الخطيّة، ويصبح من أولاد الله، ويدخل بالتالي إلى ملكوت الله الروحي والأبدي. مع العلم أن الله "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون" (1تيموثاوس 4:2).
ولقد اختبر خلاص الله المجيد هذا مئات الملايين من البشر على مر العصور وفي بلدان عديدة. وما زال الله يعمل ويفتقد شعوبًا كثيرة، كانت حتى الأمس القريب لا تعرف الله أو خلاصه المجيد. إن حقيقة الإنسان من الداخل إذن ستبقى كما هي إلى أن يأتي بتواضع معترفًا بخطاياه ومؤمنًا بالمخلّص المسيح.
وماذا عنك قارئي العزيز؟ هل ما زلت تتخبط مقيدًا بشهوات جسدك الشرير؟ يوجد أمل لك عندما تأتي تائبًا عن خطاياك ومؤمنًا بالمخلّص المسيح. وها هو الرسول بولس يكتب قائلاً: "وأما الآن فقد ظهر برُّ الله بدون الناموس مشهودًا له من الناموس والأنبياء. برُّ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. لأنه لا فرق. إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. متبرّرين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح" (رومية 21:3-24).