تشرين الثاني November 2013
إذا كان كثيرون في أنحاء المسكونة لا يدركون حتى يومنا هذا معنى الخلاص، فذلك لأنهم لم يجدوا السبيل إليه بسبب العوائق والموانع التي تصدّهم عن معرفته. إن مفهوم الخلاص كما تضمنّه الكتاب المقدس في جميع أسفاره لينتصب كصرح شامخ لا يعادله في البنيان أي مفهوم آخر، وهو يتضمن فيما يتضمّنه:
خطة الله الأزلية لمعالجة سقوط بني الإنسان في خطية التمرّد ويضم أيضًا إعلان محبة الله الكاملة ورحمته الشاملة، وطول أناته ولطفه، وصفحه وغفرانه لغير المستحقين لعفوه، ذلك مع سموّ تدبيره عن كل فكر أو تصوّر أو قرار.
ففي سابق علمه رأى الله النهايات منذ بداياتها وعرف نتائج أعمال يديه في خليقته، ولا سيما بالنسبة لرأس هذه الخليقة "الإنسان" وما سيؤول إليه وضعه من سقوط تحت سلطة إبليس، مستخدمًا الحرية التي وهبها له الله للابتعاد عن مصدر حياته وسبب وجوده، بل ومناصبته العداء في الفكر والقول والعمل ضاربًا بعرض الحائط كل نواهي الله وإنذاراته.
ولكن الله العلي في قدرة يده، وسعة تدبيره، وواسع رحمته، رتب لهذا المخلوق وأنساله فرصة للرجوع، ومنهلاً للنعمة، وبابًا للمصالحة. ولكي يوفّق بين عدله الصارم ورحمته الغنية تحمَّل في ذاته عقاب ذلك السقوط بموت الابن الإلهي "في ناسوته المتّخذ لأجل الفداء"! هذا هو ملخص مفهوم الخلاص، أما هدفه فهو كما تقول الكلمة الإلهية: "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَال حَسَنَةٍ" (تيطس 14:2).
ولقد مر هذا المفهوم على مدى التاريخ المقدس بعدة مستويات "إذا صح التعبير"، وذلك من حيث علاقة الإنسان وهو في ضعفه وعجزه وعدم جدوى تدابيره مع الله القدوس البار في كماله الأدبي، وعظمة سلطانه، وواسع رحمته. فكانت كلمة "خلاص" في العهد القديم، منذ بداية عهد الضمير حتى نهاية عهد الناموس، تشير إلى مفاهيم متعددة، بناء على أن بركات الله ومواعيده، كانت أرضية وزمنية، إذ كانت ترمز إلى البركات الروحية القادمة والمواعيد الأبدية، التي لم تخل منها أسفار العهد القديم على كل حال. فمن تلك الإشارات مثلاً:
1- الخلاص من العبودية والظلم
فقد استخدم الله موسى وهارون لتخليص الشعب من عبودية مصر ومن ظلم الفراعنة.
2- خلاص من تسلط الأعداء وضغوط المتحكمين
نجد هذا المعنى كثيرًا في سفر القضاة: "وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ، فَأَقَامَ لَهُمُ الرَّبُّ مُخَلِّصًا إِهُودَ بْنَ جِيرَا الْبَنْيَامِينِيَّ، رَجُلاً أَعْسَرَ" (قضاة 15:3). فقد خلصهم من الموآبيين وعجلون ملكهم. ولما تسلط المديانيون على بني إسرائيل صرخوا إلى الرب فأقام لهم مخلصًا جدعون بن يوآش الأبيعزري "فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الرَّبُّ وَقَالَ: اذْهَبْ بِقُوَّتِكَ هذِهِ وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ مِنْ كَفِّ مِدْيَانَ. أَمَا أَرْسَلْتُكَ؟" (قضاة 14:6). وغيرها كثير.
3- خلاص إلهي من ضعفات وبلاوي الجسد
كالأوبئة والأمراض والمجاعات، وموت الجسد وما إليه: فقد استخدم الله هارون لوقف الوبأ "فَأَخَذَ هَارُونُ كَمَا قَالَ مُوسَى، وَرَكَضَ إِلَى وَسَطِ الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا الْوَبَأُ قَدِ ابْتَدَأَ فِي الشَّعْبِ. فَوَضَعَ الْبَخُورَ وَكَفَّرَ عَنِ الشَّعْبِ. وَوَقَفَ بَيْنَ الْمَوْتَى وَالأَحْيَاءِ فَامْتَنَعَ الْوَبَأُ" (عدد 47:16-48).
وقد خلُص نعمان السرياني من داء البرص على يد أليشع النبي (2ملوك 5)، وأعلن أليشع عن خلاص من مجاعة قاتلة في السامرة المحاصرة من الآراميين. وقد بشّر بها رجال برص من خارج المدينة (2ملوك 7).
وأقيم ابن أرملة صرفة صيداء من الموت على يد إيليا النبي (1ملوك 17)، وابن الشونمية على يد أليشع النبي (2ملوك 4). وذلك الخلاص مهما قلّ شأنه يعود لمشيئة الله التي هي في الأساس الموجّه والفاعل الخفي في الأمر.
ولقد استخدمني الرب عن غير قصد مني لتخليص جسد من موت محقق. كنت حينها في العشرين من عمري. وصادف أن حضَرَتْ اجتماع الكنيسة معنا بعد ظهر ذلك اليوم أخت مباركة تدعى "مريم عوّاد"، وكانت نشيطة في نشر الكلمة رغم كونها في حوالي الثمانين. ففي انصرافنا كان لا بدّ لنا من العبور فوق جسر خرساني (كوبري) يمر فوق عدد من خطوط القطار. كانت تصعد على يمين الجسر (الكوبري) وبجانبها والدتي على اليسار، وخلفهما كنت مع شقيقي على مسافة حوالي ثلاث درجات. وفجأة صرختْ: "يا يسوع"! وإذا بها تهوي بسرعة إلى الخلف... لقد أفلتت يدها اليمنى من "درابزين" الجسر حيث كانت تتمسك بها لتساعدها في الصعود، فاندفعتُ واضعًا ذراعيّ تحتها فإذا بها تُحمل على يديّ كما يُحمل الطفل! كانت خائفة ومرتجفة، وبعد أن استعادت هدوءها ساعدتها على الوصول إلى أعلى الجسر. فبدأت تشكر الله وتمجّد مخلّص روحها ونفسها الذي هيّأ لها مخلصًا لجسدها أيضًا. وليس ذلك فقط لكنها راحت تشهد في كل مكان عن صنيع مخلصها الله الذي هيّأ لها مخلصًا لجسدها، من تلك الحادثة الخطرة.
ولقد ذكرت هذه القصة لكي أنوّه بأمرين:
1- هو شعوري بعدم الاستحقاق لذلك اللقب حيث أنني عملت ما أعانني الله عليه، وما كان يجب على كل إنسان غيري عمله لو وُجد في ذلك الظرف. فكنت في قرارة نفسي أخجل من ذلك الإطراء.
2- لقد شعرت تلك الأخت بالامتنان لمن خلصها من تلك السقطة التي كانت ستؤدي بها إلى عاهة شديدة إن لم يكن للوفاة. ومع أنها كانت مؤمنة واثقة بخلاصها وأبديتها، فقد كانت حريصة على خلاص ما تبقى من سني حياتها الأرضية مع أنها في سن الشيخوخة الصعبة. ورحت أنا أفكر في أمر أولئك الذين لم تلفت حوادث الزمن أنظارهم لكي يفكروا في المستقبل الأبدي لسنين ليس لها عدد ولا نهاية. والكثيرون يبحثون فقط عن الخلاص الجزئي والمؤقت من ضيقاتهم، وينسون خلاصهم الأبدي! يقول الكتاب المقدس: "لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى الرُّؤَسَاءِ، وَلاَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِنْدَهُ" (مزمور 3:146).
ويقول نحميا في صلاته واعترافه أمام الله عن الشعب القديم:
"وَفِي وَقْتِ ضِيقِهِمْ صَرَخُوا إِلَيْكَ، وَأَنْتَ مِنَ السَّمَاءِ سَمِعْتَ، وَحَسَبَ مَرَاحِمِكَ الْكَثِيرَةِ أَعْطَيْتَهُمْ مُخَلِّصِينَ خَلَّصُوهُمْ مِنْ يَدِ مُضَايِقِيهِمْ" (نحميا 27:9).
ويقول إشعياء النبي:
"هُوَذَا اللهُ خَلاَصِي فَأَطْمَئِنُّ وَلاَ أَرْتَعِبُ، لأَنَّ يَاهَ يَهْوَهَ قُوَّتِي وَتَرْنِيمَتِي وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا. فَتَسْتَقُونَ مِيَاهًا بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ الْخَلاَصِ" (إشعياء 2:12-3).
لقد منح الرب شعبه القديم ينابيع متعددة للخلاص الجسدي والتي كانت ترمز إلى الينبوع الأوحد للخلاص العظيم الأبدي. وكثيرون كانوا قد كدّروا ينابيع خلاصهم وأساءوا إلى الله مخلصهم، ولكن لنا بالمسيح يسوع ينبوعًا لا ينضب ولا يتكدّر ماؤه، سنتكلم عنه في حلقة لاحقة إن شاء الرب وعشنا. فإلى ذلك الوقت أرجو الرب أن يُقبِل جميعنا إليه لكي يخلص وينال نصيبًا مع المفديين بدمه الكريم.