تشرين الثاني November 2013
عندما تعتصرُ الإنسانَ التجاربُ وتعصفُ به المِحَن، أو عندما يعيشُ الإنسانُ لحظاتِ الجمال والإبداع، لا بدَّ أن تخرج من مكنوناتِ قلبه بعضُ الكلمات الشعرية أو الخواطر الرقيقة المعبرة. كانت هذه مقدّمة لبرنامج إذاعي شعري قمتُ بإعداده وتقديمه وأنا بعد في بيروت، لبنان في السبعينات وأوائل الثمانينات. كان البرنامج عبارة عن نفحةِ أملٍ ينقل خواطرَ الإنسان وتعابيرَه الوجدانية إلى كل مستمع ومستمعة عربية يحب التعبير عن النفس عن طريق الشعر والنثر الذي يعكس حنايا النفس الداخلية. "كلماتٌ من القلب" كان عنوان البرنامج يوم ذاك. ولقد استمتعتُ بكل حلقة منه وكذا تمتَّعت بكل تعبيرٍ نقلته عبرَ أمواجِ الأثير على أصداءِ الموسيقى العذبة، ليصلَ إلى آذان المستمعين نساءً ورجالاً كبارًا وشبابا..
فما هي قصةُ الكلمات التي تخرج من القلب يا ترى؟ وماذا يقول عنها علماءُ النفس والمفكرون؟ أهي تعابيرُ الأعماق؟ أم أنَّها محصّلة لحشرجاتِ النفس وانفعالاتها؟ في السرَّاء كما في الضَّرَّاء؟ التعبيرُ عن المشاعر كما يقول أحد المفكرين وهو الدكتور عبد اللطيف الصوفي "هو أمرٌ طبيعي. إذ من الطبيعي أن يعبِّر الإنسانُ عن مشاعره تجاهَ نفسه وتجاه الآخرين. ومن الطبيعي أن يُخرج إحساسه من صدره ويعبِّر عنه حركةً أو قولاً أو كتابةً. وذلك عندما يتألم لجُرح أصابه، أو يحزن لفقدان عزيز عليه، أو عندما يفرح لخبر سار سمعه." ويتابع الدكتور الصوفي قوله: "وكم هو مفيد وجميل أن يعبر الإنسان عن أحاسيسه، لا بل من الضروري فعلُ ذلك. أما إبقاءُ المشاعر مكبوتة، داخل الإنسان وعدمُ التعبير عنها، فهو أمرٌ ضار بالجسم، مسيءٌ للصحة. وممَّا يؤسف له هو أنَّ كثيرًا من الناس يسلكون في حياتهم هذا السلوك، فلا يعرفُ أحد حالةَ استيائهم من حالة فرحهم أو غضبهم. ويعتقد علماء النفس أنَّ هذا النوع من البشر أي الذين يكتمون مشاعرَهم في أعماقهم، ولا يبوحون بها، يتعرَّضون للإصابة بالأمراض ذات المنشأ النفسي أكثر من غيرهم، مثل ارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب، والأمراض العصبية الأخرى. هذا فضلاً عن كونهم لا يعيشون حياتهم بفرحٍ وسعادة ولا يُسعِدون مَن يعيش معهم."
ويتابع الدكتور صوفي قوله: "ويتجلى التعبير عن المشاعر بملامح الوجه أو الجسم، أو نوع التصرف. إذ من الطبيعي أن يفرح الإنسان عندما يتلقَّى هديةً من صديق أو قريب. فيبتسم له وربَّما يعانقه تعبيرًا عن امتنانه. والعكس أيضًا صحيح، إذ عندما يسمع خبرًا محزنًا نراه يقطِّب وجهه وقد يبكي من شدة انفعاله. وهذا سلوك صحِّي وطبيعي. ومنهم مَن يعبِّر بالكلمات، ومنهم مَنْ يلجأ للتعبير الخطي فيكتب ما يداهمه من مشاعر. على أيِّ حال فإنَّ على الإنسان أن يعبّر عن مشاعره بصدق، ودونَ أيِّ زيف، وبصورة ودِّية لا تجرح مشاعر الآخرين." وفي تقرير آخر ورد أيضًا في هذا المنحى يقول بأنَّ النساء بشكل عام يُخفينَ مشاعرهن أكثر من الرجال فيُصبن بالاكتئاب ويعانين من الوحدة. أما العلاج عند النساء فيجب أن يركِّز على التعاون ومهارات الإدراك لمنع تطور التأمل إلى اكتئاب أو قلق. وهذا ما ينصح به المختصون.
إذن نفهم من كلِّ هذا أنَّ الإفصاحَ عن مكنونات القلب هو المنحى الطبيعي للإنسان سواءً كان رجلاً أم امرأة. وبالطبع تختلف المجتمعات الشرقية عن الغربية إذ نجد فيها المرأة تعيش في مجتمع ذكوري لا يشجع المرأة عن التصريح والبوح بما يعتمِل في الداخل. وفي أحيان كثيرة تُمنع من التعبير عن ذاتها وأفكارها وآرائها لكونها امرأة فتصمت وتصمت وتصمت. وأضحت المرأة التي تتبع أسلوب التعبير والتصريح والإفصاح بحرية، تُمنح صفة "المتحررة"؛ هذا في أقلِّ وصف توصفُ به حتى من قِبَل من هم من جنسها. لكنْ، ما هو الأهم، أن يسيرَ الإنسان مع التيار مسوقًا هكذا مثله مثل غيره، أم أن يُثبت وجوده ويعبِّر عن آرائه، ويتكلم بحرية، ويناقش الأمور بموضوعية، وبشكل مقبول فلا يعود منطويًا منزويًا خائفًا مرتعبًا!
بالطبع إنَّ ما مرَّ به الرجالُ العظام والنساء العظيمات في الكتاب المقدس منذُ أجيالٍ كثيرة وسنين عديدة، جعلهم يدوِّنون ما كمَن في نفوسهم من مشاعر وأحاسيس بكلِّ حرية. وليس هذا فحسب بل إن روح الله القدوس استخدم تعابيرهم التي تدلُّ عن اختبارات الحياة اليومية التي عاشوها لتكون بركة في كل عصر ومصر. فعندما عبَّر مثلاً النبي داود في القديم عن انفعالاته وأحاسيسه أيام محنته نسمعه أولاً يذكر حالته واحتياجه الماسّ لله كاحتياج جسده إلى الماء فيقول:
يا اَلله، إلهي أنت، إليك أبكِّر، عطشتْ إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء، لكي أبصر قوتك ومجدك. كما قد رأيتك في قدسك. لأن رحمتك أفضل من الحياة. شفتاي تسبحانك، هكذا أباركك في حياتي. باسمك أرفع يدي. وبشفتي الابتهاج يسبحك فمي. إذا ذكرتك على فراشي في السُّهد ألهج بك، لأنك كنت عونًا لي، وبظل جناحيك أبتهج. التصقت نفسي بك يمينك تعضدني" (مزمور 63).
إن مسرّة الله هي أن يسمع صوت خلائقه وينصتَ لأنين قلوبهم فتتحرك أحشاؤه ويهبُّ لكي ينقذهم وينجدهم. ليس هذا فحسب بل إنَّ الله إلهُ التواصل الحقيقي الذي عبّر لبني البشر أجمعين عن محبته لهم إذ أرسل لهم المخلص الموعود به منذ بداية الخليقة. فهل من تعبير أعمق وأعظم وأبدع من هذا التعبير عن الحب الحقيقي؟ لهذا نرى يسوع المسيح الفادي وهو على أرضنا هذه يتحنَّن على أرملة نايين التي كانت تبكي معبرةً عن حزنِها العميق لفقدانِ ولدِها الوحيد. لهذا نجدُه للحال يوقفُ النعشَ ويقيمُ الميت ويعطيه لأمه (لوقا 7). وهناك أيضًا في أريحا وحين سمع صوت بارتيماوس الأعمى مناديًا إياه وقائلاً: يا يسوع ابن داود ارحمني. وقف يسوع وأمر أن يُنادى. ولما سأله ماذا تريد أن أفعل بك؟ قال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع اذهب إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر. (مرقس 10)
وكما ينصت ويستمع إلينا ويشفي أجسادنا الضعيفة المريضة، فإنه أيضًا يفكُّ أسرَ الإنسان من قيود الشر والخطية التي تملأ كيانَهُ الداخلي. لكنَّه أولاً يريد أن يسمع صوتَ الإنسان وأنينه معبرًا عن ندمه عن خطاياه وآثامه التي يرتكبها كل يوم ضد الله ووصاياه. لهذا نسمعه في محضر أحد الفريسيين يوضِّح له في العشاء ما فعلته المرأة الخاطئة النادمة عن خطاياها التي: جاءت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبلًّ قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب. أوضح المسيح له المجد بأنَّ ما فعلته هذه المرأة هو تعبير صريح وواضح عن ندمها عن خطاياها، وإثبات قوي على توبتها الصادقة. لهذا قال لها: مغفورة لك خطاياك... إيمانك قد خلصك اذهبي بسلام (لوقا 7).
ترى أمام هذه الحقيقةِ الجميلة بأن الله الذي خلقنا على صورته ومثاله الذي هو إله التواصل والشركة والعلاقة، تواصل معنا نحن البشر معبرًا عن محبته بشكل صريح وواضح إذ أرسل القدوس البار يسوع المسيح لكي يموت عن الإنسان الخاطئ ويفتديه من كل ما يعتصر في نفسه وروحه من آثام ومعاصي، ويقوم من بين الأموات ليمنحه النصرة والغلبة عليها، وينال بالتالي الغفران الأكيد والحياة الجديدة منه تعالى. نعم، أمام هذه الحقيقة الجميلة، أليس حريٌّ بنا أصدقائي أن نفتح قلوبنا، ونطلق ما فيها من انفعالات ومشاعر وميول معبِّرين عنها لله الذي يعرف جبلتنا؟ عندها لن نعود مكبوتين مكتئبين خائفين، بل نصبح أحرارًا "لأن الفخ انكسر ونحن انفلتنا". وتغدو عندها كلماتُ قلوبنا وتعابيرُ وُجْداننا هي تواصلٌ دائم بيننا وبين أبينا السماوي المحب، وفادينا ومخلصنا الفريد والمميَّز الابن الأزلي يسوع المسيح البار، والروح القدوس الذي يشفع فينا دومًا، وكذلك عشرةٌ قوية وعلاقة متينة بيننا وبين إخوتنا في الإنسانية.