أيار May 2014
يوجد في موروثاتنا الشرقية كثير من الخرافات التي لا تستند إلى أي برهان من الواقع، بل ينقلها الكثيرون دون فحص أو تمحيص. وللبوم والغربان في تلك الثقافات صيت رديء جدًا رغم أنها من أكثر الطيور "التي لا تؤكل" نفعًا للإنسان وأقلّها ضررًا على الإطلاق. ولربما كان مردّ ذلك بالنسبة للغراب مثلاً: بسبب لونه الأسود الفاحم وصوته غير الجميل المسمّى "نعيقًا" وليس له في هذين الأمرين من ذنب، فقد خلقه الله على تلك الصورة. ولطالما تشاءم الناس هناك بمجرد رؤيته أو سماع نعيقه ولذا فهم يدعونه "غراب البين" أي الذي ينذر بالفراق. ولكن سيرته الحقيقية هي عكس ذلك.
عندما نقرأ الكتاب المقدس أو نسمع الذين اختبروا، تأخذنا الرأفة بهذا الخادم الصغير الأمين والمسالم، "الغراب".
كنت مسافرًا من مدينة إلى أخرى في سورية منذ عدة سنوات، فرأيت في إحدى محطات استراحة الحافلات رجلاً ينقل أربعة أقفاص كبيرة مليئة بالغربان من حافلة إلى أخرى. فتملّكني الفضول ثم سألته: ماذا ستفعل بهذه المخلوقات المشؤومة؟ فأجابني بكل ثقة مستغربًا سؤالي: إن هذا الطائر هو صديق المزارع والكرّام. فأنا آخذ هذه الطيور لكي أضعها في بستاني وأطعمها حتى تشعر بالأمان فتستوطن ثم تعمل باستمرار على تخليص المكان من الديدان والحشرات والقوارض الصغيرة، وليس فيها أي أذى للإنسان.
ونحن نذكر أن الغراب هو المرسل الأول لنوح من الفلك بعد الطوفان. "وحدث من بعد أربعين يومًا أن نوحًا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها وأرسل الغراب، فخرج متردّدًا حتى نشفت المياه عن وجه الأرض" (تكوين 6:8-7).
فالغراب كان دليله لما يجري خارج الفلك حيث كان يتردد إليه حتى جفت المياه جزئيًا فلم يعد بعدها، وعلم نوح أن الفرج بات قريبًا. وإن كان البعض يأخذون هذا بالمعنى السلبي فيشبّهونه بالمؤمن الذي يظل مترددًا إلى "فلك نجاته" إلى أن يجد له مستقرًا في العالم فيمضي بعيدًا ولا يعود إلا إذا تضايق جدًا وعاد إلى نفسه فجدد عهوده من جديد.
وتعلمنا كلمة الله بواسطة هذا الطائر دروسًا في الاتكال الواثق برحمة الله وعنايته. قال الرب يسوع: "تأملوا الغربان: أَنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ، وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلاَ مَخْزَنٌ، وَاللهُ يُقِيتُهَا..." (لوقا 24:12). ويقول المرنم: "المعطي للبهائم طعامها، لفراخ الغربان التي تصرخ" (مزمور 9:147). وفي سفر أيوب "من يهيّئ للغراب صيده، إذ تنعب فراخه إلى الله، وتتردّد لعدم القوت؟" (أيوب 41:38).
ورغم أن هذا الطائر فقيرًا يعتمد على العناية الإلهية، فهو لم يكن أنانيًا حينما أمره الله أن يطعم النبي إيليا الهارب من وجه الملك الشرير أخآب وزوجته الوثنية إيزابل، حيث اختبأ عند نهر كريث، وكانت الغربان تعوله بخبز ولحم صباحًا ومساء. وقد نسمع بعض المفسرين أو المتحدثين يصفون الغراب بأنه "نجس"، فهم بهذا يجعلون أنفسهم ناموسيين أكثر من واضع الناموس. لأنه لو كان الغراب نجسًا يحرّم لمسه، يكون الله قد أمر إيليا بمخالفة الناموس حينما أكل ما لمسته الغربان. فالغراب طائر مكروه يجب عدم أكل لحمه وليس عدم لمسه (لاويين 12:11-18؛ وتثنية 12:14-18). ويشبّه البعض المؤمن الفقير الذي يعطي الآخرين، بالغربان التي أطعمت إيليا النبي. فحين يعطي المؤمن من احتياجه يكون قد عمل مشيئة الله بقلب صادق. ومثالاً لذلك فقد مدح الرب يسوع تقديم الأرملة الفقيرة فلسَيها الأخيرين لخزانة الهيكل واعتبرها أعطت أكثر من الأغنياء الذين دفعوا كثيرًا (لوقا 2:21-4). فقد كانت صورة حقيقية للمؤمن الذي يتحنن ويعطي من إعوازه معتمدًا على وعد الله الصادق كما يقول داود: "أَيْضًا كُنْتُ فَتىً وَقَدْ شِخْتُ، وَلَمْ أَرَ صِدِّيقًا تُخُلِّيَ عَنْهُ، وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزًا" (مزمور 25:37).
عاش في وارسو، أيام حكم القياصرة وملوك أوربا، فلاح شاب يُدعى "دوبريه" كان متزوجًا وله ولدان وكان يعمل لدى أحد الإقطاعيين. وقد أصيب دوبريه بألم شديد في الظهر منعه من القيام بالأعمال الزراعية الشاقة. وبعد أن أمهله صاحب العمل لمدة شهرين، ولم يقدر على استئناف عمله كالمعتاد، قرر الإقطاعي فصله من العمل، وطلب منه إخلاء المنزل الذي يسكنه مع عائلته. وحدد له موعدًا نهائيًا لذلك. فضاق الأمر بتلك الأسرة الفقيرة... كان دوبريه مؤمنًا حقيقيًا بالرب واثقًا بمواعيده، ولكن ذلك الاختبار الأخير كان أكبر من استيعابه حتى بدا له الأمر عسيرًا والمشكلة مستعصية. لكنه ظلّ متمسكًا بوعود الرب وبدأ يصلي بتضرع ودموع. وقبل موعد الإخلاء ببضعة أيام جمع عائلته وطلب من زوجته وولديه الركوع معه على أرض الغرفة وطلب المراحم من الله القادر على كل شيء. وبعد أن صلّوا بدموع وتضرع شعروا براحة في قلوبهم، فجلسوا وراحوا يرنمون ترنيمة يقول قرارها ما ترجمته: "ليس كما تفكر، ولا كما أفكّر، الله يُدبّر". وما هي إلا لحظات حتى سمعوا نقرًا على طاقة في أعلى الجدار كانت مقفلة. وكان والد دوبريه قبل وفاته منذ فترة وجيزة قد ربّى غرابًا، فكان يتردّد إلى منزلهم من وقت لآخر ليحصل على بعض الطعام. وحينما فتحوا الطاقة إذا به يدخل وفي منقاره شيء لامع ألقاه إلى الأرض. التقطه دوبريه فإذا هو خاتم ذهبي مرصّع يبدو ثمينًا جدًا. فرحت الأسرة بهذه الهدية وتأكدوا أنها جاءت استجابة لصلاتهم. ولكن دوبريه احتار في الأمر فلربما ليس له الحق أخلاقيًا أن يستولي على هذا الخاتم وهو لا يعرف لمن هو وكيف وجده الغراب. فقرر أن يذهب في اليوم التالي إلى القس ويطلب مشورته، وهكذا فعل. فلما تفحّص القس الخاتم وجد محفورًا بداخله اسم صاحبه وهو "ستاسلوف ملك بولونيا". فقرر أن يصطحب دوبريه إلى الملك وأخذ موعدًا لذلك. وفي الموعد المحدّد تقابلا مع الملك، وقدّم القس الخاتم إليه، ثم حكى له قصة تلك العائلة، وكيف صلّت فجاء به الغراب. فرح الملك بالعثور على خاتمه الذي كان قد أضاعه في رحلة صيد.
ولكنه تأثر أكثر من ذلك لحالة هذه الأسرة في ضائقتها ولقوة إيمانهم وأمانتهم. فأمر أن يُبنى لهم بيت صغير جميل في أملاك الملك، وأن تُرسم فوق عتبته العليا صورة غراب في منقاره خاتم، وأن يُكتب تحت الصورة قرار الترنيمة "ليس كما تفكر، ولا كما أفكر، الله يدبّر".
عزيزي القارئ الكريم، إن الحياة مليئة بالمفاجآت والامتحانات، ووعود الرب صادقة وأمينة لجميع المتكلين عليه، والمطلوب منا حسب قول الكتاب:
1- الثقة والتسليم الكامل لمشيئته الصالحة كما يقول الحكيم: "توكّل على الرب بكل قلبك وعلى فهمك لا تعتمد" (أمثال 5:3).
2- عدم التأخر عن إسداء المعروف لمن هم في ضيقة أو حاجة لأن الرب لا ينسى تعب المحبة، فهذا الغراب يمثل خادمًا صغيرًا يعمل في طاعة القدير، كما يقول الحكيم أيضًا: "لا تمنع الخير عن أهله، حين يكون في طاقة يدك أن تفعله" (أمثال 27:3). فلا شيء يبقى سوى ذلك الكنز الذي لا يفنى: عمل المحبة.