جاء يسوع مختلفًا عن الأنبياء الذين جاءوا قبله على مرِّ العصور. لم يأتِ مكلَّفًا بمهمة من الله مثل موسى النبي ليذهب إلى فرعون ليُخرج شعب الله المستعبد في مصر، ثم يقوده عبر الصحراء إلى أرضٍ اختارها الله له ليقيم فيها.
لم تكن مهمته أن يدوّن الوصايا على لوحَيِّ حجر ثم يلقّن الشعب الناموس بكل تفاصيله ليحفظوه ويتبعوه. ولم يكن مثل صموئيل الذي كلّفه الله أن ينظم دولة إسرائيل ويختار ملوكها وحكامها حسب خطة الله وقصده. لم يكن مثل داود رجل السيف والرمح الذي كان عليه أن يثبِّت قوة الأمة، ويحارب أعداءها، ويعلن أن الله هو ربّ الجنود. ولا مثل سليمان فيبني هيكلاً لله وبيتًا يليق به على الأرض. ولم يكن كإيليا الذي كان مقاومًا لعبادة البعل ومتحديًا للملك أخآب طوال حياته، وذروة هذا التحدّي كان على جبل الكرمل وهو يقول للشعب:
إن كان الرب هو الله فاتبعوه، وإن كان البعل فاتبعوه.
وبعد أن صعد إلى السماء في مركبة من نار، تبعه إشعياء وغيره من الأنبياء الذين أتوا مرسلين من الله إلى الناس ولكلِّ إرسالية مختلفة. أما يسوع فكان مختلفًا! يسوع المسيح لم يأتِ مرسلاً من الله بل هو الله جاء في جسد إنسان. لذلك قال يوحنا المعمدان:
أنا أعمّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمّدكم بالروح القدس ونار.
ولما اعتمد يسوع انفتحت السماء ونزل روح الله مثل حمامة عليه وصوت من السماء واضحًا يقول:
هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.
ثم ابتدأ يسوع مهمته وجال يختار تلاميذه، ونادى سمعان وأندراوس أخاه وقال:
هلمّ ورائي فأجعلكما صيّادَي الناس.
وتركا شباكهما وتبعاه. ثم رأى يعقوب ويوحنا مع زبدي أبيهما في السفينة فدعاهما، فللوقت تركا السفينة وأباهما وتبعاه.
وتوالت دعوة يسوع لتلاميذه ليتبعوه وتجمّع حوله اثنا عشر تلميذًا هم: بطرس وأندراوس، يعقوب ويوحنا، فيلبس وبرثلماوس، توما ومتى العشار، يعقوب بن حلفى ولباوس الملقّب تدّاوس، سمعان القانوي ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه.
_ _ _ _ _ _ _
سار التلاميذ حول يسوع يستمعون مع الجماهير إلى كلامه ويعاينون بدهشة وذهول أعماله. ومن فوق الجبل، قال لهم وللجموع حوله:
أنتم ملح الأرض ولكن إن فسد الملح فبماذا يملّح؟ أنتم نور العالم. فليضئ نوركم هكذا قدّام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات.
وما أن أنهى كلامه ونزل من الجبل، حتى قام بشفاء أبرص كفرناحوم وشفى غلام قائد مئة بكلمة عن بعد. ولما استضافه بطرس في بيته وجد حماته راقدة محمومة، فلمس يدها وتركتها الحمّى وقامت تخدمهم. وتوالت الأعمال الخارقة له من إخراج شياطين، إلى شفاء المفلوجين، ثم إقامة ابنة يايرس من الموت، وشفاء نازفة الدم التي بعد اثنتَي عشرة سنة وهي تعاني، مسّت ثوبه وتوقّف نزيف دمها. وأشبع الآلاف من بضع أرغفة وقليل من السمك. وانتهر العاصفة وأسكتها. ورأى بطرس ويعقوب ويوحنا- فوق جبل التجلّي- يسوع في هيئة سماوية وموسى وإيليا يتكلمان معه. وأمام قبر لعازر بعد دفنه بأربعة أيام، وقف التلاميذ مذهولين وهم يرون الميت يخرج من القبر ويرجع إلى بيته وإلى أختيه. كل ذلك وأكثر رآه التلاميذ وأدركوا أن معلِّمهم هذا أعظم وأكبر من كل من جاءوا قبله من أنبياء ورسل. وشعروا بالزهو والفخر والتباهي بأنهم تلاميذه. ثم جال بخاطر بعضهم أفكار عمّن سيكون بجواره في ملكوته، من سيتولّى مواقع قيادية مرموقة؟ من سيتقدّم على الآخر ويكون في مركز قوة أكبر؟ من الأعظم؟! وعلم يسوع أفكارهم فأخذ ولدًا وأقامه في الوسط وقال لهم: "من قَبِل هذا الولد باسمي يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني، لأن الأصغر فيكم جميعًا هو يكون عظيمًا."
وجاءته أم ابنَي زبدي وطلبت منه أن يجلس ابناها واحد عن يمينه والآخر عن يساره في ملكوته! لم يفهموا وكان لا بدّ أن يفهموا...
_ _ _ _ _ _ _
وحتى يفهموا، وأثناء وقت العشاء قبل عيد الفصح، قام يسوع ابن الله، الله الذي ظهر في الجسد، الذي كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان... يسوع الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة، الذي فيه خُلق الكل، ما في السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى. الذي الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شيء. يسوع الأول والآخر، البداية والنهاية. يسوع ملك الملوك ورب الأرباب. الذي كان والكائن والذي سيكون. قام يسوع، وخلع ثيابه، واتّزر بمنشفة لفها حول وسطه. دُهش التلاميذ ولم يفهموا ماذا يفعل، وركّزوا انتباههم فيه... لم يلتفتوا إلى بعض. رأوه يصبّ ماء في مغسل، لم يطلب من أحد المساعدة. لعلّ بعضهم تململ في متكئه ولكنه أشار لهم بالاستمرار في العشاء. حمل الإناء بين يديه واتّجه نحو أول الصفّ ووضع الماء تحت قدمَي التلميذ الجالس دون تمييز أو اختيار، ثم ركع على ركبتيه أمامه وبدأ يغسل رجليه الخشنتين المغبرتين بين همهمة الجميع. لم يرفع رأسه بل استمرّ بعناية يكمّل غسل القدمين ثم يمسحهما بالمنشفة المتّزر بها. انتصب وحمل الإناء وتحرّك نحو التلميذ التالي ووضع الإناء وانحنى وركع وبدأ يغسل رجليه واستمرّ حتى وصل إلى بطرس الذي اعترض وهو يسحب قدميه بعيدًا، لكن يسوع أمسك بهما وأعادهما وأتمّ غسلهما بكل عناية وهو يقول:
لست تعلم الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد.
وبعد أن انتهى من غسل أرجلهم جميعًا عاد واتّكأ في الوسط وقال:
أتفهمون الآن؟ أنتم تدعونني معلّمًا وسيّدًا وقد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب أن يغسل بعضكم أرجل بعض لأني أعطيتكم مثالاً.
وفهموا الدرس واستوعبوه ونفذّوه في حياتهم وفي كنيستهم ثم في إرساليتهم. إلا أننا بمرور الزمن ننسى الدرس ونتشامخ ونتشاحن ونتزاحم لنكون في الوضع الأول، ويضيع منا الطريق وننحرف ونفشل ونفقد الرؤية والهدف ونحن نبحث عمن ينافسنا ويبعدنا عن المكان الأول.
وتعلو كلمات الرب ووعوده إلى سليمان ويصل صداها إلينا وهو يقول:
إذا تواضع شعبي الذي دُعي اسمي عليهم وصلوا وطلبوا وجهي، ورجعوا عن طرقهم الرديّة، فإني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم."
ليتنا نفعل!