البراهين العلمية للصحَّة والطُّب في الكتاب المقدَّس (الجزء الثاني)
تناولنا المبادئ العامَّة التي تتعلَّق بكيفية الحفاظ على الصحَّة الجسديَّة مِن منظور كتابي وعلمي. إنَّ الكتاب المقدَّس ينظر بعُمق إلى الأبعاد الجسديَّة والنفسيَّة والروحيَّة لمواضيع الطُب والصحَّة والشِّفاء مِن الأمراض.
الدَّواء، مثلًا، قد يكونُ غذاءً أو أعشابًا، أو يكونُ أيضًا في الصلاة والراحة والمصالحة مع الآخرين.
تُشير دراساتٌ عِدَّة حديثة إلى أنَّ التوازُن النفسي والفكري والجسدي له التَّأثير الأساسي والبيّن في المحافظة على صحَّة الإنسان.
فالسُّلوك الشخصي المتوازن وحُسن الاختيار يُصبح بذلك المانع الرئيس للأمراض وليس الطُّب الذي يُعالج النتائج ولا يُعطي أهميةً للأسباب. صَدق المثل الدَّارج الذي يقول: "درهم وقاية خيرٌ مِن قُنطار علاج." هناك معايير كتابية تُعنى بالصحة: أذكر منها على سبيل المثال، عدم أكل الحيوانات الميتة (تثنية 14)، أو الشحم نظرًا لخطورة الكولسترول (لاويين 7)، أو شرب المياه الراكدة والمدنَّسة بميت (عدد 19؛ لاويين 11)، كذلك عزل الأبرص (لاويين 13) وعدم زيارة المرأة بعد الولادة مباشرة حماية لصحتها ولمولودها. هذا وقد أوضح العِلم أن اليوم الثامن أنسب وقت لعملية ختان الذكور سواء من جهة تجلُّط الدم أو تحمُّل الطفل (لاويين 12).
إنَّ اتّباع نمط حياة صحِّي هو العلاج الحقيقي لكُلِّ الأمراض التي يُعاني منها الإنسان. مُمارسة الرِّياضة باستمرار، كالمشي مثلًا، يُساعدُ على هضم الأطعمة وامتصاص الغذاء وإلى تحفيز الدَّورة الدَّمويّة وعمليَّة التنفُّس. هذه الأمور كلُّها تُساهم في المحافظة على التَّوازن الصحِّي والروحي السَّليم، لذلك ينبغي علينا أن نكون "فَرِحِينَ فِي الرَّجَاءِ، صَابِرِينَ فِي الضِّيْقِ، مُواظِبِينَ عَلَى الصَّلاَةِ." (رومية 11:12)
بحسَب الجمعيَّة الأمريكيَّة للسكّري، إنَّ السَّببَ الرئيس وراء هذا المرض، الأمر الذي سيُبحث بالتفصيل لاحقًا، هو ما يُعرفُ بمناعة مادة الأنسولين في العضَلات وذلك نتيجةَ تراخِيها بسببِ قِلَّة الحركة والتمرين. يُشار أيضًا إلى انخفاض مُستويات الكولسترول في الدم نتيجةً للنشاط والتَّمرين. التَّحرُّك والرِّياضة مثلًا يُساعدان في إفراز هرمون الإندورفن الذي يُسبِّبُ الشُّعور بالرَّاحة ويمدُّ الإنسان بالطَّاقة والصحَّة والحيويَّة.
أحد أبرز الأدوية المذكورة في الكتاب المقدَّس هو الزَّيت. هذا هو زيت الزيتون طبعًا المعرُوف منذ آلاف السِّنين والذي له فوائد صحيَّة مُتعدِّدة. يُستخرج هذا الزيت عادةً بطحن حُبيبات الزيتون بما فيها اللُّب. ثم يُفصَل السائل عن المواد الأخرى، وبعدها يُسحَب الماء مِن الزَّيت. في سفر التكوين 8 يُذكر "غُصن الزيتون"، ثُم كان زيت الزيتون أيضًا يُستخدَم في مسح الكهنة والملوك (خروج 22:30-29)، وفي تقديم الذبائح (لاويين 1:2-7، 15-16، 10:14-29)، وللتناول مع الخُبز (لاويين 23:29).
يُستعمل زيت الزيتون في مُختلف بُلدان الشرق الأوسط كحَميَّة غذائية مُتكاملة. ذكرَت مؤخرًا إحدى المجلاَّت العلميَّة الأوروبيَّة المتخصِّصة أنَّ استهلاك زيت الزيتون، بالإضافة إلى المواد الأخرى الغنية بمضادات الأكسدة، كما ذكرنا آنفًا، يُعتبر مِن أحد أهم العوامل التي تؤدي إلى الحِفاظ على الصحَّة ونضَارتها. هذا يُذكِّرني بنصيحة الرَّسول بولس لتيموثاوس الشاب (1تيموثاوس 23:5) عندما شدَّد على أهمية استخدام النَّبيذ أو عصير العنب في علاج أمراضه المعويّة الهضميَّة. أيضًا نُلاحظ استخدام السَّامري الصَّالح للنَّبيذ لعلاج الجراحَات (لوقا 34:10). فإنَّ مُركَّب الكحُول في النبيذ يُمكن استخدامه كمُعقِّم، وكذلك زيت الزيتون كمَرهَمٍ طريّ.
في الإطار السَّيكولوجي والنَّفسي، ذكرت الدِّراسات أنّ الأشخاص الذين يتمتّعون بروح المسامحة والغفران، يتمتَّعون أيضًا بصحَّةٍ جسديَّة أفضل بالمقارنة مع العنفاء الذين لا يحتملون الآخرين. بالطَّبع، إنَّ المرارة وعدم المسامَحة عاملان أساسيَّان في توليد المشاعر السَّلبية التي تؤذي السلامة النفسيَّة والروحيَّة والجسديَّة. إن صحة الإنسان النفسيّة والفكريّة تتلخّص في أمور مسلكية وتصرفات تخضع لعدة عوامل اجتماعية وثقافية ونمط عيش محدَّد، أذكر منها:
أولاً الابتعاد عن الموبقات وتجنُّب الآفات بالإقلاع عن التدخين، والتوقّف عن معاقرة الخمور، وعدم تعاطي المخدرات، أو ممارسة ألعاب الميسر والقمار، لما لهذه العادات مِن عواقب سيئة على صحة الإنسان النفسيّة وتوازنه الاجتماعي، وبالتالي سلوكه وطريقة عيشه وتعاطيه مع بيئته.
ثانيًا محاولة تجنُّب الخوض في كل ما يؤدي إلى توترات عصبية واضطرابات نفسية وما يترتب عليها مِن تأثيرات عضوية، والتخفيف مِن ضغط العمل اليومي نظرًا لوجود تناغم في العلاقة بين الوضع النفسي والوضع العضوي لتأثر أحدهما بالآخر مع الأخذ في الاعتبار الدور المؤثِّر والفعَّال للجهاز العصبي المركزي وما يستتبع ذلك مِن ردّة فعل. في المقابل، للغِدد الصمّاء في إفراز الهرمون دورٌ أساس، وأهمُّها الغدّة النخامية ودورها الفعَّال بالنسبة لإفراز هرمون الشدة والغضب المسمّى "أدرينالين" الذي تفرزه الغدة الكظرية (الموجودة فوق الكلية).
وبين الفعل وردة الفعل في تعاطي الإنسان مع ذاته ومع الآخرين فإنه يتأثر بواسطة حواسه الخمس، إراديًا ولا إراديًا، ويتفاعل نفسيًا وجسديًا مع العالم الخارجي والبيئة المحيطة به، وتكون ردة فعله سلبية أو إيجابية تبعًا للإثارة العصبية أو النفسية. نأخذ هنا على سبيل المثال تصرّف الفرد في حالات التوتر العصبي (عراك، غضب، خوف شديد، ترقب مضطرب، نقاش حاد، إلخ...) نستنتج أنّ الجسم في هكذا وضع، يقوم بإفراز هرمون الغضب "أدرينالين"، مؤديًا إلى اضطرابات بيولوجيّة سلبية كارتفاع ضغط الدم الشرياني، وتوترات عصبية يمكن أن تؤدي إلى مضاعفات سلبية مباشرة على وظائف القلب والشرايين أو الدماغ، والاستعداد للإصابة بداء السكري إذا ما تكرر هذا الوضع لفترة دائمة أو لفترات متقطِّعة وحسب السوابق المرضية للفرد. في المقابل، نرى الإنسان في حالات الارتياح النفسي (مناسبات الضحك، المرح، البهجة، السلام القلبي، إلخ...) هادئ المزاج، بارد الأعصاب، يأخذ الأمور بالتروّي واللّين، وذلك عائد إلى أنّ الدماغ يفرز في هذه الحالات مادة مهدئة مِن مشتقات المورفين ومِن مفعولها الإحساس بالاطمئنان والشعور بالراحة والتفاؤل.
ثالثًا إعطاء الجسم قسطًا مِن الراحة: يُفضَّل للإنسان، وكلٌّ حسب طبيعة عمله أو مهنته، إعطاء جسمه فترة، ولو قليلة، مِن الراحة خلال العمل، بواسطة الاسترخاء مثلًا لدقائق معدودة أو التمدُّد على الظهر مع محاولة الصفاء الذهني أو القيلولة بعد تناول وجبة الغداء. كل ذلك يؤدي إلى التخفيف مِن ضغط الحياة اليومي ويبعث على الشعور بالراحة الجسدية والنفسية، ويمكن أن يساعد على تحمُّل الجهد الفكري، والتعب الجسدي أو الإرهاق النـفـسـي.
رابعًا أختم بالحديث عن عامل مهم له تأثيره الإيجابي على سلامة الجسم، وهو الصحة الفكرية وذلك بمحاولة الترفيه عن النفس وذلك بأن يقوم الإنسان بمزاولة هواية محبّبة إلى نفسه ويرتاح إليها: المشي والمطالعة مثلًا أو الرسم، القراءة أو الكتابة أو الرياضة الذهنية (الشطرنج، كلمات متقاطعة، لعبة الداما، السكرابل)، خصوصًا في أوقات الفراغ للاستفادة منها بتغذية الروح وملء الوقت. ويسترعي انتباهنا في هذا المجال طريقة التعبير والتصرُّف أيضًا في المجتمعات الأوروبية حيث نرى طرقًا أخرى للاستفادة مِن الوقت: الإنكليز مثلًا يعتبرون الوقت مِن ذهب والفرنسيون يستفيدون مِن وقت الفراغ بانتظام.
كلمات ختامية
بعد أن استعرضنا مبادئ الطب والصحة في الكتاب المقدّس وعددًا مِن الأمراض المعروفة في مجتمعاتنا الحديثة، نرى أنَّ الأصول الاجتماعيَّة التي تتماشى مع تعليم العهد القديم والمتعلِّقة بالصحَّة، تُشير إلى أنَّ مُمارسات الإنسان وغذاءَهُ هما السببان الرئيسان وراء استدامة صحَّة المرء مِن عدَمها، بالإضافة إلى بعض العوامل الوراثيّة والبيئيّة. فالنَّظافة الجسميَّة مثلًا هي أمرٌ ضروري وتقي الإنسان مِن الأمراض المعديَة أو السارية. أيضًا إزالة الرُّطوبة مِن أماكن السَّكَن يُبعدُ خطر الإصابة بمرض الفطريات والأمراض المعدية. كما أن اتِّباع حَميَّة غذائيَّة مُتوازنة له التَّأثير الإيجابي على الصحَّة وديمومتها.
في الختام أقول إنَّ الله وضع في حكمته وتدبيره الأطر السليمة والناجحة لاستمرار الغِذاء المتوازن وفي اختيار الغذاء السَّليم والمفيد في الحياة الصحيّة المستديمة.