هكذا وصف الرسول بولس العبادة المسيحية بكونها عبادة عقلية (رومية 1:12) "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ."
لذلك يمكن تقسيم العبادات إلى عبادات عقلية وأخرى غير عقلية. وتتشارك كل العبادات في الهدف وهو محاولة كل منها للاقتراب إلى الله، بينما تختلف في استخدام وتفعيل العقل، والممارسات والطقوس، والإيمان، والصورة التي تقدَّم عن الله.
أولًا: تختلف العبادة العقلية عن غير العقلية في استخدام العقل، ففي الأولى يُستخدم العقل في كل تعليم وعبادة. وتعدّ محاولات العقل لفهم وإدراك الحقائق الروحية حقّ طبيعي له غير منسوخ، حتى لو كانت بعض هذه الحقائق عسرة الفهم. فكما أن الحقائق العلمية تحتاج إلى فحص وبحث لاكتشافها كونها معقّدة وليست بسيطة، هكذا الأمور التي تخصّ الله ربّ العالمين. من ثم العبادة العقلية هي التي تعلن الحقائق حتى وإن كانت معقّدة، وتستخدم العقل في محاولة فهمها وتوضيحها. "لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً، إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ." (2بطرس 12:1) بينما الثانية تغيِّب العقل وترفض النقاش أو الحوار أو الأسئلة. ودائمًا ترى أن ذهن المتعبّد يقوده إلى الكفر إن سُئل أو فكر أو بحث. من ثم تدعو معتنقيها ألَّا يسألوا عن أشياء كثيرة، وأن يتقبَّلوا الأمور الدينية كما هي! وعادة العبادات غير العقلية تتبع خرافات وأساطير الأوَّلين. لذلك هي سهلة يمكن إدراكها كونها محدودة. بينما العبادة المسيحية العقليّة تتعقّل الإيمان، أي تفسّره حتى يستطيع العقل فهمه. ولهذا كان شعار أنسلم "أومن لأتعقَّل".
ثانيًا: تختلف العبادتين في استخدام الطقوس والفرائض، فالعبادات غير العقلية تهتم اهتمامًا كبيرًا بالطقوس والفرائض، بينما تتجاهل هدف وجوهر العبادة وهو صلة المتعبّد في علاقة مع الله. انعكس هذا في معتنقيها فهم يسعوا دائمًا إلى إتمام الفروض والطقوس فقط، بينما جوهر العبادة مهمل ومنسيّ. وإن أخطأ شخص ما في ممارسة من ممارسات العبادة قد يفسد صلاة الجماعة. على الناحية الأخرى تجد العبادة العقلية دائمًا تذكِّر المتعبِّد بالهدف والجوهر من العبادة وهو الاتصال الشخصي مع الله.
ثالثًا: يعدُّ الإيمان حجر زاوية العبادة العقلية، فالله غير محدود، ومن ثم لا يمكن للعقل البشري أن يدركه أو يحتويه. من ثم التعليم الديني يستخدم العقل الإنساني لا لإثبات الإيمان لأن ذلك ناسخ لاستحقاق الإنسان بل لإيضاح ما يورد فيه مما سوى الإيمان لأنه لما كانت النعمة لا تنسخ الطبيعة بل تكملها وجب أن تخدم العقل. ويرى توما الإكويني الحقائق الإيمانية أنها تتجاوز العقل الإنساني وإن كانت لا تتناقض معه. وبعض هذه الحقائق قد لا يمكن إدراكها بالعقل لذلك عليه قبولها. وأن الله انزل على العقل البشري بواسطة الوحي بعض الحقائق التي تعلو على مستوى العقل والتفكير. على الناحية الأخرى تمنح العبادات غير العقلية الإيمان لكل معتنقيها ومتممي طقوسها وفرائضها. ليس ذلك فحسب بل وقد تعطيهم مكانًا أسمى من باقي البشر.
رابعًا: كلا العبادتين تقدم صورة عن الله، العبادة العقلية تقدّم الصورة الحقيقية والكاملة التي أعلنها الله عن ذاته، بينما الأخرى تقدّم الصورة التي حسنت في عيني صانعيها ومبتدعيها. هذا الصورة فيها جزء من الحق ولكن ليس كل الحق. من ثم هي صورة مزيفة عن الإله الحق. وعبر كل العصور حاول الإنسان أن يصوّر الله فاستخدم المتاح في عصره. ففي زمن النحت صنع تماثيل وأصنام تصوّر الله سُمّيت بالعبادات الوثنية، مع تطوّر الإنسان وتعلّمه الكتابة كتب كتبًا تصف الإله. هذا الكتابات قد تكون رائعة ومبهرة لكنها تقدم صورة مزيفة عن الله. من ثم هي كتابات وثنية أيضًا، وهكذا عبر كل العصور. وما زال حتى الآن البعض ينسى أو يتناسى أن الله أعلن عن ذاته بأنواع وطرق عديدة استمرت ما يقرب من ستة عشر قرنًا من الزمان إلى أن ختم الله الإعلان حين ظهرت في كلمة الله المتجلية في شخص المسيح، فكان المسيح كمال وختام الإعلان الإلهي. لذلك العبادة المسيحية كاملة كمصدرها، بينما العبادات الأخرى غير مكتملة فهي تحتاج دائما إلى إضافات.
من ثم أدعوكم إلى التعقّل في العبادة المسيحية، وتفعيل العقل في كل جزء من أجزائها، سائلين الله أن يهب الإيمان لكل منا. وأن يحمينا من العبادات غير العقلية والوثنية، وأن يرشدنا إلى الطريق الذي أحبه وارتضاه. وأن ينير عقولنا وبصائرنا حتى نتتبع خطواته. وأن يهدم كل حصون وثنية بنيت في أذهاننا تعيق وصول الحق إلينا.
